تشهد ولاية “تيرس زمور” في الشمال الموريتاني، منذ أيام، سلسلة احتجاجات مناهضة لإقامة مصانع لمعالجة الحجارة المعدنية تستخدم بعض المواد الكيميائية السامة مثل “الزئبق” و”السيانيد”، ويرى المتظاهرون أن السماح لهذه المصانع والمطاحن باستخدام المواد السامة سيشكل خطراً حقيقياً على السكان، وينذر بكارثة بيئية تؤثر على الإنسان والحيوان.
وقد أطلق بعض المتظاهرين على هذه المصانع اسم “مصانع الموت”، حيث يعتبر السكان أن صحتهم مرهونة بالتنفس في بيئة سليمة وخالية من المواد السامة التي تستخدم في هذه المصانع، ورفضاً لاستخدام هذه المواد، نظم حراك “بيئتي في خطر” في مدينة أزويرات وحراك “نريد إبعاد المطاحن” في مدينة أم اكرين احتجاجات واجهتها الشرطة الموريتانية بالقمع والتعذيب، ما أدى إلى إصابات في صفوف المتظاهرين.
من مادة “الزئبق” إلى “السيانيد”
تم تأسيس حراك “بيئتي في خطر” عام 2018 من طرف مجموعة من المدونين والنشطاء الموريتانيين في مدينة أزويرات عاصمة ولاية تيرس زمور، من أجل الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث، وذلك من خلال منع استخدام المواد السامة في المصانع الموجودة في مدنية أزويرات، وإبعاد المطاحن الضارة عن المدن.
وفي حديث لـ”المجتمع”، قال إسحاق أحمد إمبيريك، الناشط في حراك “بيئتي في خطر”: إن الحراك قام بعد تأسيسه بإطلاق حملات إعلامية للتوعية وأخذ الحيطة حول مخلفات الزئبق الذي كان حين ذاك يستخدم حتى داخل أماكن في وسط المدينة، وبعد أن توصل بعض أعضائه إلى معلومات عن فرضية استخدام السيانيد وغيره من المواد السامة لتصفية الذهب دقَّ ناقوس الخطر، وكثَّف جهود التوعية والتحسيس الافتراضي، وأطلق نداءات متكررة للجهات المعنية من أجل منع أي نشاط مزمع في هذا الصدد.
وأضاف أن أنشطة الحراك اختصرت على الوقفات السلمية أمام مباني الولاية منذ فترة، وعقد اجتماعات متعددة مع الوالي والسلطات، وأوضح أهدافه التي تتلخص في رفض استخدام السموم وتلويث البيئة، كما أوصل عدة رسائل للنواب والعمد، والمجلس الجهوي، وإدارة المعادن، وخلال زيارة الرئيس الموريتاني الأخيرة للمنطقة، رفع الحراك شعاراته الرافضة لهذه المصانع المزمع إنشاؤها لكونها ستستخدم مادة “السيانيد”، وأوصل رسائله للجهات العليا في البلد، وتواجد نشطاؤه في كل نقطة تمت زيارتها من طرف الرئيس، لكن دون جدوى.
مطالب المتظاهرين في مدن الشمال
تتلخص مطالب حراك “بيئتي في خطر” وحراك “نريد إبعاد المطاحن” في الحفاظ على صحة السكان والحرص على بقاء البيئة سليمة وخالية من التلوث والمخلفات البيئية الضارة، وذلك من خلال منع استخدام المواد السامة في المصانع مثل “الزئبق” و”السيانيد”، وإبعاد المطاحن التي تستخدم “الزئبق” عن المدن.
وفي تصريح لـ”المجتمع”، قال الشيخ باي، الناشط في حراك “بيئتي في خطر”: إن الدافع الرئيس وراء هذا الحراك هو المحافظة على بيئة سليمة، وتتمثل مطالب الحراك في معرفة الشركات التي تم منح الرخص لها لتقييم مدى قدرتها وإمكاناتها، والتعاقد مع مكتب مختص من أجل تحديد المكان المناسب لمثل هذا النوع من المصانع، وتشكيل لجنة مراقبة لنشاط هذه المصانع ومتابعة مدى احترامها للنظم والقوانين المنظمة لمثل هذه الأعمال، وترحيل مطاحن التربة التي تستخدم “الزئبق” وإبعادها عن المدن والأماكن الرعوية.
ويمكن القول: إن احتجاجات سكان مدن الشمال الموريتاني تأتي في سياق القلق الذي يثيره اقتصاد السوق غير المقنَّن، فالعلاقة بين النشاط الاقتصادي والبيئة وطيدة، وإذا لم يتم تنظيمها من خلال قوانين واضحة سيؤدي ذلك إلى تدمير البيئة، وقد شهدت فرنسا عام 1952 حادثة بيئية -بسبب محارق الفحم المفتوحة- سماها أستاذ الاقتصاد ستيفن سميث في كتابه “الاقتصاد البيئي” بـ”الضباب الدخاني”، وقد تسببت هذه الحادثة في توقف أغلب مظاهر الحياة في مدينة لندن، لكنها كانت وراء سنِّ قوانين جديدة في المجال البيئي.
تعامل السلطات مع الاحتجاجات الشعبية
لم يُمهل الأمن الموريتاني المتظاهرين وقتاً طويلاً للتجمهر والتعبير عن قضيتهم، بل باغتتهم في الدقائق الأولى سيارات من الشرطة والحرس الوطني وقامت بتفريقهم واعتقال عدة أشخاص، وفي سياق رده على سؤال بخصوص تعامل السلطات مع مطالب المتظاهرين، قال الناشط الشيخ باي لـ”المجتمع”: للأسف حتى الآن رد الحكومة مخيب للآمال، فقد اتسم بالتجاهل وأحياناً بالوعود الكاذبة، وفي الأخير اتسم بالقمع والتعذيب والتنكيل بنا وبأبشع الطرق وداخل مبنى الولاية وبإشراف مباشر من الوالي وقائد الحرس ومدير الأمن.
وبعد خروجه من السجن، كتب أمم المفكر أزويراتي، أحد رواد حراك “بيئتي في خطر”، على “فيسبوك”: يوم الأحد المشؤوم الموافق 2020/11/29 سقطت ورقة التوت وتمزقت الأقنعة وعرف الجميع أن تلك الأخلاق والحُلم وحسن الإصغاء التي كانت ترفع سلطاتنا الإدارية والأمنية في تيرس زمور مجرد حيل مصطنعة، وأخيراً كشرت عن أنيابها ووجهها الحقيقي بكل غطرسة وعنجهية، ومع سبق الإصرار والترصد حاولت اغتيال مجموعة من الشباب العزل ذنبهم الوحيد أنهم رفعوا شعارات رافضة للسيانيد في ولايتهم، وهذا الرفض حق يكفله القانون، خاصة أننا لم نحمل حجراً ولم نشعل ناراً كما أننا لم نغلق طريقاً.
وأضاف: ورغم كل هذا العنف يا هولاكو وطغمتك الجبانة، ستظل سلميتنا أقوى من غطرستكم وسوء أخلاقكم، وسنظل متمسكين بمطالبنا المشروعة قناعة منا في دولة القانون وقوة الحق، وسنظل نرفع في وجوهكم “لا للسيانيد في تيرس”.
تنديد بسياسة القمع والتعذيب
لاحظ المتابعون للاحتجاجات في الشمال الموريتاني بشاعة القمع والتعذيب الذي تعرض له نشطاء حراك “بيئتي في خطر”، فأصدرت أحزاب سياسية ومؤسسات حقوقية بيانات تندد فيها بسياسة القمع والتعذيب، حيث ندد المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان بكل أشكال القمع والتعذيب وطالب بالأخذ على أيدي المتورطين، كما ندد حزب اتحاد قوى التقدم المعارض بقمع وتعذيب المتظاهرين، وقال: إن 10 شباب في مدينة أزويرات «أخضعوا لجلسة تعذيب جماعية وعمومية، اتسمت بمستوى من العنف والهمجية غير مألوف، رغم ما عرفته بلادنا من أساليب القمع والتنكيل».
وحسب موقع “أزويرات إنفو”، فقد عقد والي ولاية تيرس زمور إسلم ولد سيد اجتماعاً مع هيئات المجتمع المدني والأحزاب السياسية من أجل شرح وجهة نظر السلطات المحلية حول تعاطيها مع الوقفات الاحتجاجية، وقال خلال الاجتماع: إن عناصر من الأمن الموريتاني تعرضوا لمقاومة من طرف المتظاهرين وربما تعرض بعضهم لإصابات.
وتعتبر ولاية تيرس زمور ثاني أكثر الولايات الموريتانية مساهمة في الناتج المحلي، حيث تأتي بعد ولاية داخلة نواذيبو (العاصمة الاقتصادية للبلاد)، وتعد أزويرات (عاصمة ولاية تيرس زمور) من أهم المدن الاقتصادية العمالية في موريتانيا، وتمثل قبلة للمواطنين الباحثين عن الثراء السريع من خلال التنقيب عن الذهب.