نشب خلاف بين الصحفي و”اليوتيوبر” البارز صابر مشهور وبعض منتقديه بسبب محاولة مشهور الإجابة عن سؤال: ماذا بعد بوتين؟
وهذا، لعمري، سؤال طبيعي يمكن طرحه عند مناقشة التطورات التي يمكن أن تحدث عند تغير الزعماء، أو عندما تطول أعمارهم في الحكم وتهرم الشعوب ولا يهرمون، وإن كان هناك فرق كبير بين ما يحدث بسبب غياب زعيم لدولة ديمقراطية، حتى ولو كان مختلف عليه اختلافًا كبيرًا، مثل ترمب، وزعيم لدولة دكتاتورية مثل الصين أو روسيا، وزعيم لدولة من دول الموز، فهذه الأصناف الثلاثة من الزعماء ليست سواء.
السؤال طبيعي، والإجابة أيضًا طبيعية ومتوقعة، فقد قيل: إن من بين التوقعات تفكك روسيا، وإن تفكك روسيا سيكون له تأثير كبير على المسلمين، قد يكون في صالحهم وقد لا يكون في صالحهم، وهنا تقع مساحة كبيرة للخلاف؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، واستشراف المستقبل يعتمد على أشياء كثيرة من بينها ثقافة المحلل والأيديولوجية التي يؤمن بها، ولعله ليس من نافلة القول هنا أن نقول: إن المسلمين ارتبطوا ويرتبطون بروسيا ارتباطاً كبيراً، وقد كان تأسيس الاتحاد السوفييتي كارثة ألمَّت بالمسلمين، حيث فعل الشيوعيون بهم الأفاعيل في داخل وخارج الاتحاد السوفييتي، والمفارقة أن انهيار الاتحاد السوفييتي أيضاً لم يكن في صالح المسلمين الذين انفرد بهم الغرب وعلى رأسهم أمريكا.
والموضوع مطروح بالفعل للمناقشة في كبريات الصحف والمراكز الغربية، ويكفي أن تكتب على أي محرك للبحث على الشبكة العنكبوتية: ماذا بعد بوتين؟ لترى كمّ التحليلات والدراسات التي تناقش هذه القضية.
ولكن الذي لم يعجب المنتقدين هو الإسهاب في ربط الموضوع بالإسلام والمسلمين! وذلك جريًا على عادة السادة المثقفين وحضرات النخب في هذا العصر، الذين إذا ذكر الإسلام امتعضوا! وكأن الدين لا علاقة له بهذه الأمور!
ولكن الدين، يا سادة، كهوية، شاء من شاء وأبي من أبي، ما زال هو المؤثر الأبرز في بناء الإستراتيجيات والعلاقات بين الشعوب، فما أن انتهت الشيوعية التي توهمت أنها قضت على الدين قضاء مبرماً، حتى برز الدين مرة أخرى ليشكل الهويات، ويسبب التنافرات والاتفاقات والاختلافات والتوافقات والصراعات والحروب في المعسكر الشيوعي السابق، عادت روسيا وصربيا للأرثوذكسية، وعادت جمهوريات القوقاز والبوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا دولاً وجمهوريات مسلمة.
دع عنك الالتزام بالدين من عدمه، فالدين كهوية حاضر بشدة في كل مكان، وكلنا تابعنا تنصيب بايدن الذي يبدأ بالكنيسة ولم ينتهِ بأداء اليمين على الإنجيل.
كل الدول تأخذ الدين في الحسبان عند بناء إستراتيجياتها مهما كان ما تتبناه وما تدعيه من أيديولوجيات، هذه حقيقة يؤيدها الواقع في كل أرجاء الدنيا، ولكن يراد لنا، نحن المسلمين، أن نتناسى أو نتجاهل هذه الحقيقة.
والمشغولون بالقضايا الاسلامية وهم غالبا أفراد مشغولون دائما بتثقيف الجمهور الواسع الكبير الذي يتناسب مع القضايا الكبرى التي يطرحونها، وهذه القضايا تحتاج إلى إلقاء نظرة عريضة وشاملة إلى حد ما، تبدأ من الماضي، ثم تخترق الحاضر وتنطلق إلى المستقبل.
ولكن النخبة التي نكبنا بها، تلك النخبة التي تربت على عين نخبة من الغربيين هي الأخبث والأشد دهاء وعداء للأمة، والغربيين، كما يعلمنا القرآن “ليسوا سواء”، لا تعرف عن الغرب إلا لغته، وكأنها، أي لغة الغرب، الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها، منتهى العلم، ولا تعرف بعد ذلك شيئاً لا في الغرب ولا في الشرق، نخبنا هذه لم تتعلم إلا كيف تسخر من كل ما يخص وكل ما يهم الأمة، ولا تجيد غير ذلك.
والكثيرون يعتقدون أن الفضائيات الناطقة بالعربية لا تنشغل بمناقشة القضايا الإستراتيجية، وهذا ملحوظ في أكثر الفضائيات العربية التابعة للعرب، أما الفضائيات العربية الموجهة للعرب فلها أجنداتها الخاصة، ولا يلومها أحد ولا ينبغي له أن يلومها على ذلك، ولكن اللوم كل اللوم على من يبثون التفاهة بأموال تقتطعها الأمة من قوتها وقوت أولادها.
صحيح أن الكثيرين ممن يناقشون هذه القضايا مضطرون للتبسيط الشديد أحياناً في معالجة قضايا كبرى، وهم معذورون في ذلك، لأنهم أفراد وليسوا مؤسسات تنفق بالملايين، والقضايا كثيرة وشائكة ومتشابكة، والجمهور عموماً محتاج للتبسيط، ولكن تبسيطا غير مخل، ولذلك غالبًا ما يحتاطون في القضايا الشائكة بإبراز المصادر، أو بإعلان عدم التخصص، وهذه ليست حجة للتهكم بهدف شطب هذه القضايا ومنع مناقشتها.
فلماذا يكتفي هؤلاء النقاد بالتهكم على مناقشاتهم للقضايا الكبرى، ولا يطالبون بمناقشات أعمق لها على الفضائيات العربية، إذا لم تكن مناقشات ذلك الفريق على المستوى الذي يعجبهم؟
أم أن لنا حقاً فيما ندعيه، وخصوصًا أن الدلائل متواترة على أننا، كعرب وكمسلمين، لا يد لنا فيما يوضع لنا من مناهج تعليمية وإعلامية، وأن الغرب هو من يطبخ لنا المناهج المسمومة التي نتناولها في إعلامنا وتعليمنا؟ وأن الحديث في القضايا الإستراتيجية ممنوع.