نصل إلى الحلقة الأخيرة من الحلقات الرمضانية (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ) في رمضان، وهذه الحلقة بعنوان “ثمرة الصوم”.. فما حقيقة الثمرة؟ وهل هي على وجهها الظاهر في المعنى الدنيوي.
التقوى.. الظاهرة والباطنة
إن ثمرة الصوم كما أخبر عنها القرآن الكريم هي تحقيق “التقوى”، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 193)، والتقوى مفهوم رئيس ومركزي في الحياة الطيبة المرجوة للمؤمن، لأنها تمثل إيناع العبادات.. فالتقوى ثمرة لا ينتهي بها الغرس –وقد كان رمضان كله غرساً للتقوى- ولكن ثمرة للإيناع في حياة المسلم والمسلمين طول العام حتى يعاود الغرس مرة أخرى في عام مقبل وصوم جديد، فما التقوى؟ وما إيناع ثمرتها المرجوة من الصوم؟
ما التقوى؟ وما إيناع ثمرتها المرجوة من الصوم؟
التقوى من وقي، والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، قال تعالى: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ) (الإنسان:11)، (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (الدخان: 56)، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفًا حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضى بمقتضاه، وصارت التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات[1]، وقد وردت التقوى بحسب معجم عبد الباقي (251) مرة بمشتقات مختلفة ترتبط جميعها بأحوال النفس الإنسانية وحركة الإنسان وجوارحه، وأداء العبادات والشعائر، والتحذير من سوء العاقبة، والتنبيه للاعتبار بالآيات[2].
أما إيناع “التقوى” فتظهر في حركة المسلم ونشاطه في الكون ومنها:
– العفو؛ (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (البقرة:237).
– التعاون؛ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة:2).
– العدل؛ (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (المائدة:8).
– البحث في مقاصد الشعائر والعبادات: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ) (الحج: 37)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21)، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وارتبطت التقوى بالزكاة؛ (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (الأعراف: 156).
– القول السديد؛ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء: 9).
– الخوف من العاقبة؛ (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام: 51).
– الاعتبار بالآيات؛ (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (يونس: 6).
إن التقوى في ضوء استقراء الآيات هي غاية العبادات لدى الإنسان المسلم، وغاية الآيات التي يرسلها الله تعالى للإنسان من أجل الهداية والتسليم له عز وجل. ومن ثم فإن عمل التقوى مركزي في البناء التربوي للمسلم، وفي تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين، فإن تخلي المسلم عن التقوى يربي أجيالًا بلا هوية عقائدية ولا إنسانية، لكن يربي أجيالًا تستجيب للدهرية الكاملة؛ (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: 24)، كما أن تخلي المجتمع –كجماعة إنسانية موحدة- عن التقوى يخلق مجتمعًا ذا شبكة علاقات متفسخة فاقدة المعنى يحتكم إلى شريعة الغاب لا شريعة الإنسان أي شريعة التقوى.
إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية
إيناع آخر للتقوى وهو إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية، حيث يعيد الصوم ترتيب العلاقات الاجتماعية وتجديد الإطار الأخلاقي للمجتمع المسلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “.. فإن كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم”[3]، فالمجتمع الصائم: مجتمع يخلو من فحش القول، وينقي نفسه من الجهالة والتسفيه والتنابز بالألقاب، ويهيمن التسامح واللين والبشر على خُلق أفراده الصائمين، ودفع السيئة بالحسنة، بما يعضد من لحمة علاقاته الاجتماعية ويجدد تشييدها.
إن المجتمع الصائم الذي يتوجه بكل خلجاته وانفعالاته نحو الله تعالى مجتمع أبعد من أن يُفسد هذا التوبة وهذا التوجه الروحي بالتشاحن والقتال، فهو أقرب في سلوكه إلى التغافر منه إلى المنابزة، وأقرب إلى التواد منه إلى البغضاء، وأقرب إلى البنيان المرصوص (الصف الواحد) منه إلى التشرذم والعنصرية والطبقية فوحدة التوجه الداخلي (للصائمين) يوجب بالضرورة وحدة التوجه الخارجي لهم؛ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف: 4).
كما أكدت النبوة أن الغرض من الصوم ليس هو الجوع والعطش، أو الصبر عليهما، أو اختبار قدرة الجسد على التحمل، ولكن قصد الصوم كما تبيّنه النبوة الراشدة هو تطهير المجتمع من سوء الأخلاق وفحشها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم”، بل إن فعل التزوير والمساعدة عليه والوقوع فيه ينقض الصيام من أساسه قال صلى الله عليه وآله وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، وينعى صلى الله عليه وآله وسلم على أولئك الذين لم يحصِّلوا من صومهم إلا مشقة الجوع والعطش وفقط وتركوا لجوارحهم العبث في المجتمع، بالتنابز والقتل وشهادة الزور وسوء الخلق على الجملة: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع “[4].
ومن أخلاق الصائم الاجتماعية -أيضاً- الجود، أي البذل والعطاء الغزيرين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة في صومه.
هذه مجموعة من صور إيناع “التقوى” ثمرة الصوم، ولا شك أن هناك إشعاعات عديدة يمكن أن نجدها في حياتنا الفردية والجماعية إذا امتلنا خط الصوم لما بعد الصوم.
___________________________________
[1] الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ الكريم.
[2] أحمد فؤاد عبد الباقي: المعجم الفهرس لألفاظ الكريم.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] مسند عبدالله بن المبارك.