زعم بعض غير المنصفين من المستشرقين والباحثين أن الدولة الإسلامية تأبى معاملة غير المسلمين بأحكام شريعتها لأنها مقدسة لا تسري على غير المؤمنين، وقال بعضهم: إن القرآن قانون ديني وسياسي، ولما كان منزلاً تعين أن تكون المدنية الإسلامية غير قابلة للترقي، والشريعة غير قابلة لتقرير الحقوق، والتسليم بمعتقدات الذين لا يؤمنون بالإسلام، فكان من الواجب إيجاد طريقة تمكن المسلمين من الاختلاط بالأجانب.
حكم الإسلام في المحاربين أن يُدفعوا إذا هاجموا ويُبادرَوا بما يكُف بأسهم إذا تحفزوا مع رعاية جانب الرفق والأخذ بالعرف
وهذا قول جَهُولٍ بالدين الإسلامي والقرآن والتاريخ، فمن يدرس أصول الإِسلام بجِدّ، ويذهب في تعرف روح تشريعه مذاهب بعيدة المدى، يدرك دون أن يأخذه ريب، أنه دين نزل من السماء؛ ليضرب بهدايته في أرجاء المعمورة، ويعلّم الأمم أرقى نظُم الاجتماع، وقد ارتفعت في الشرق والغرب رايته، يوم تولى أمره زعماء تأدبوا بآدابه، وتحروا في الدعوة إليه سبلاً سويَّة.
وفي هذا المقال، نريد أن نقف مع بعض ما احتوته شريعة الإسلام من النظم المدنية، والقواعد التي تشهد بأنه تشريع احترم حقوق غير المسلمين.
إن المخالف في نظر التشريع الإسلامي إما أن يكون محارباً، أو معاهداً، أو ذمياً.
أما المحاربون: فهم الذين يهاجمون أمة الإسلام، أو يتحفزون للهجوم عليها، أو يمدون أيديهم إلى حق من حقوقها، وحكم الإِسلام في هؤلاء أن يُدفعوا إذا هاجموا، ويُبادرَوا بما يكُف بأسهم إذا تحفزوا، ويأذن الإِسلام في دفع المهاجم، أو كف المناوئ، مع رعاية جانب الرفق والأخذ بالعرف، ومن الرفق الذي أقام عليه الإسلام سياسته الحربية أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، ولا يجوز قتل النساء، وإن استُعملن لحراسة الحصون، أو رَمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ) (البقرة: 190)، فجعل القتال في مقابلة القتال، ونبه الرسول صلى الله عليه وسلم على أن من لا يقاتل لا يُقتل، وحين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة، أنكر ذلك وقال: “ما كانت هذه لتقاتل” (رواه مسلم)، وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكف عن قتالهم، إلا أن يتخذوا ذلك ذريعة للفوز على المسلمين، ولا يجيز الإسلام التمثيل بالمحارب، قال صلى الله عليه وسلم: “ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً” (رواه مسلم).
الإسلام أوجب أن نستقيم للمعاهدين ما استقاموا لنا وبحال الخوف من خيانتهم ننبذ لهم العهد علناً
وأما المعاهدون: وهم الذين انعقد بيننا وبينهم عهد على السلم، فيجب علينا الوفاء بعهدهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وإذا كان في بعض ذوي القوة من يحسّ من خصمه المعاهد تحفزاً إلى الخيانة، فيسبقه إليها، فإن الإِسلام يوجب في حال الخوف من خيانة المعاهدين أن ننبذ لهم العهد علناً، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).
وأما الذميون: وهم الذين رضوا بالإقامة تحت راية الدولة الإِسلامية، فقد قرر لهم الإسلام من الحقوق ما يكفل لهم حريتهم، ويجعلهم أعضاء حية مرتبطة بسائر أعضاء الأمة المسلمة ارتباطَ ألفة وعطف وتعاون، توجد هذه الروابط في القرآن والحديث، وآثار الصحابة، وأقوال أهل العلم من بعدهم.
ويقتضي العهد الذي يُعقد لأهل الذمّة أن يقيموا تحت راياتنا متمتعين بحقوقهم الدينية، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولقد أعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل إيليا الأمان لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وسائر ملتهم، وجاء في العهد الذي كتبه لهم: “لا تُسكن كنائسهم، ولا يُنقص منها، ولا من خيرها، ولا من صُلُبهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم”.
إن القرآن الكريم كقانون أساسي لدولة الإِسلام لم يترك ناحية من نواحي الاجتماع أو السياسة إلا وضع لها أصلاً يُهتدى به في تفاصيل أحكامها، وانظر إليه ماذا صنع في ناحية هي من أكبر النواحي الاجتماعية أو السياسية، وهي معاملة طوائف غير المسلمين إذا اختاروا الإقامة في جوارنا، ولم ينزعوا إلى مناوأتنا، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، فالآية تحثّ على رعاية قانون العدل في معاملتهم، وتدل كذلك على فضيلة البرّ بهم، وإذا عبرت عن هذا المعنى بعدم النهي عنه، فلأنها قصدت الردّ على ما يسبق إلى الذهن من أن مخالفتهم للدين تمنع من برهم، وتسهل الاستهانة بحقوقهم، وقد جرى أمراء الإِسلام العادلون على سيرة هذه الآية، فكانوا ينصحون لنوابهم بالعدل، ويخصون أهل الذمة في نصيحتهم بالذّكر.
يقتضي عهد أهل الذمّة أن يقيموا تحت راياتنا متمتعين بحقوقهم الدينية آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم
من أحكام أهل الذمة:
ولقد أدرك الفقهاء رعاية التشريع الإسلامي لأهل الذمة، وحرصَه على احترام حقوقهم، فاستنبطوا من أصوله أحكاماً جعلوا المسلم وغير المسلم فيها على سواء، من هذه الأحكام:
– أنهم أجازوا للمسلم أن يوصي أو يقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً، ولما قال صلى الله عليه وسلم: “لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه” (رواه مسلم)، قالوا: البيع على غير المسلم الداخل في ذمة الإِسلام كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم، كلاهما حرام، وإذا ذكر الفقهاء آداب المعاشرة، نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يعرض لأذيتهم.
قال شهاب الدين القرافي في كتاب “الفروق”: “إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودين الإِسلام، فمن اعتدى عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام”.
وقال ابن حزم في “مراتب الإجماع”: “إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمّة الله تعالى، وذمة رسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة”.
وجعل الإسلام أحكام رؤسائهم فيما بينهم نافذة، فلهم أن يتحاكموا أمام رؤساء مللهم فيما يعرض لهم من القضايا، وإنما اختلف علماؤنا فيما إذا رفع الخصمان منهم القضية إلى الحاكم المسلم، فقال المالكية: إن كان ما رفعوه ظلماً لا تختلف الشرائع في تحريمه؛ كالغصب، والقتل، وجب على المسلم أن يفصل فيه على وجه العدل، فإن كان مما تختلف فيه الشرائع، كان له الخيار في الفصل بينهم بشريعة الإِسلام، أو صرفهم إلى رئيس طائفتهم، وحملوا على هذا الوجه قوله تعالى: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (المائدة: 42).
الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج تحت سلطان الإِسلام بيهودية أو نصرانية وجعل لها من الحقوق ما لزوجته المسلمة
وقال الإمام أبو حنيفة: على الحاكم المسلم متى ارتفع إليه الخصمان من أهل الكتاب أن يفصل في قضيتهم، وليس له الإعراض عنهم، وأخذ في وجوب الفصل بينهم بقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (المائدة: 49)، وقال: إن الأمر القاطع في هذه الآية ناسخ للتخيير في آية: (فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).
وأباح الإسلام للمسلم أن يتزوج تحت سلطان الإِسلام بيهودية أو نصرانية، وجعل لها من الحقوق ما لزوجته المسلمة، وفي الزواج صلة الصهر، وتتبعها صلة النسب، وفي هذا شاهد على أن الدين الحنيف ليس بالدين الذي يدعو إلى التقاطع المانع من المعاشرة بالمعروف، والتعاون على مرافق الحياة.
وخلاصة القول: إن المسلمين قد استناروا بسماحة الإسلام، وتعلموا من آدابه أن يحسنوا معاشرة أصحاب الأديان الأخرى، ممن لا يكيدون لهم كيداً، ولا يظاهرون عليهم عدواً، ويمكنهم أن يعيشوا معهم في صفاء وتعاون على المصالح الوطنية.
وكثيراً ما نقرأ أنباء من يشرح الله صدورهم للإسلام، فنجدهم حيث يذكرون دواعي اهتدائهم، يصرحون بأن من هذه الدواعي: ما يرونه في هذا الدين من سعة الصدر، والأمر بالرفق والإحسان في معاملة المخالفين، وبألا يزاد عند جدالهم على دفع الشبهة بالحجّة.
_________________________________
(*) المقال مأخوذ بتصرف من “موسوعة الأعمال الكاملة” للإمام محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر الأسبق، يرحمه الله.