شغلت قضية الصكوك أذهان الكثيرين في العقد الأخير على وجه التحديد؛ حيث تم طرحها بوصفها بديلاً لسندات القروض الربوية، وأثبتت نجاحها عالمياً، حيث لم يقتصر التعامل بها في عالمنا العربي والإسلامي فقط، بل انتشرت في العديد من الدول غير الإسلامية.
فما الصكوك بداية؟ وهل هي اختراع حديث، أم أن لها في الرؤية الإسلامية جذوراً؟ وما الذي يمكن أن تقيمه بوصفها منتجاً إسلامياً خالصاً؟ وما خصائصها التي تميزها عن نظائرها الأخرى؟ وهل هناك بالفعل حاجة اقتصادية لهذا النوع من الأدوات؟ والسؤال الأهم: كيف يمكن تفعيلها لتكون بديلاً يتخطى الأيديولوجيا في ظل حالة من البرجماتية التي تفرضها تخوفات أصحاب رؤوس الأموال؟ أسئلة كثيرة يحاول هذا التحقيق الإجابة عنها.
البرس: الصكوك تختلف عن الأوراق المالية كالسندات وأذون الخزانة بأنها تخضع للمضاربة وتتعرض للخسارة والربح
في البداية، يوضح د. محمد برس، مدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، معنى الصكوك، مؤكداً وجود تعريفات متعددة لها، إلا أن أوثقها ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بأنها «أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس المال إلى حصص متساوية، وذلك بإصدار صكوك مالية برأس المال على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس المال وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه».
وأوضح د. برس أن التعريف العام لـ»التصكيك» هو عبارة عن تحويل مجموعة من الأصول المدرة للدخل غير السائلة إلى صكوك قابلة للتداول مضمونة بهذه الأصول ومن ثم بيعها في الأسواق المالية مع مراعاة ضوابط التداول.
ويؤكد أن مفهوم «التصكيك» ظهر في عصرنا الحديث بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1880م، وكان المقصود منه في البداية تصكيك الديون والرهونات، ثم تحولت عملية التصكيك لتشمل كافة الأصول المالية، وأطلق البعض على هذه العملية مسمى «التوريق»، وذلك بتحويل الديون أو الأصول الإنتاجية إلى صكوك يتم تداولها في سوق ثانوية.
وتختلف الصكوك، بحسب برس، عن الأوراق المالية الحكومية الأخرى كالسندات وأذون الخزانة في أنها تخضع للمضاربة وتتعرض للخسارة أو الربح، وتمثل الصكوك حصصاً شائعة في حقوق منفعة الأصول المملوكة للدولة ملكية خاصة، أو لأي من الشخصيات الاعتبارية العامة.
الغزالي: تساعد على النهوض بالاقتصاد عامة والإسلامي خاصة من الناحية النظرية والعملية
ورغم أن الصكوك تتفق مع باقي الأوراق المالية في قابليتها للتداول في سوق الأوراق المالية، فإنها تتميز بعائد مرتفع لارتفاع حجم المخاطر فيها، أما السندات والأذون فانخفاض سعر الفائدة هو العنصر المميز لها لعدم وجود مخاطر في تداولاتها.
تأصيل وتميز
أما د. محمد محمد الغزالي، نائب مدير مركز الاقتصاد الإسلامي– جامعة الأزهر، فيقول: مخطئ من يظن أن مسألة الصكوك مسألة حديثة شكلاً وموضوعاً، ولا أصل لها في التعاملات الإسلامية القديمة، فقد ثبت وقوع التعامل بالصكوك قديماً، ويرُجع كثير من الباحثين عملية «التصكيك» في التاريخ الإسلامي إلى تجربة «صكوك الطعام» التي أشار إليها الإمام النووي في شرحه على مسلم عندما قال أبو هريرة لمروان بن الحكم: «أحللت بيع الصكاك، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى»، فخطب مروان الناس فنهى عن بيعها.
وأوضح الغزالي أن تجربة صكوك الطعام ليست التجربة الوحيدة، فقد ازدهرت في العصر العباسي «صكوك المديونية» بشكل كبير من خلال ما أطلق عليه «السُّفتجة» آنذاك، وكانت «السفاتج» تقوم بدور الحوالات أو الشيكات في وقتنا الحاضر، ولجأ الولاة في البداية إليها في إرسال ما زاد من دخول ولاياتهم، فقد أرسل والي مصر والشام «سفاتج» بقيمة 47 ألف دينار إلى بغداد، كما استخدم التجار «السفتجة» لتصفية حساباتهم بين الأقطار المختلفة بكتابة «السفاتج» إلى وكلائهم.
البلتاجي: هي المنتج الذي حقق حضوراً غير مسبوق للمصرفية الإسلامية بأسواق المال الدولية
وعما يمكن أن تقدمه الصكوك الإسلامية، أوضح د. الغزالي أنها تساعد على النهوض بالاقتصاد عامة والاقتصاد الإسلامي خاصة، سواء من الناحية النظرية أو العملية.
ويشرح قائلاً: أما نظرياً؛ فهي استكمال لحلقات الاقتصاد بجانب شركات التأمين والمصارف الإسلامية، وعملياً؛ فإن وجودها يساعد على رفع الحرج عن المستثمرين الذين يطلبونها، كما أنها تلبي احتياجات الدولة في تمويل مشاريع البنية التحتية بدلاً من الاعتماد على سندات الخزينة والدين العام، إضافة إلى أنها تثري الأسواق المالية الإسلامية، لأنها الطرف المكمل للأسهم، والجناح الثاني للبورصة التي من خلالها تتحرك الأموال بحرية وسهولة، فضلاً عن أنها تعتبر من الأدوات المهمة لتنويع مصادر الموارد الذاتية، وتوفير السيولة اللازمة للأفراد والمؤسسات والحكومات، إلى جانب أنها تغطي عدداً كبيراً من الشركات التي تحتاج إلى التمويل طويل الأجل، ما ساعد على الوصول بفكرة الصكوك الإسلامية إلى مستوى التداول العالمي مما يؤكد مدى سعة وحكمة وتكامل النظام الإسلامي.
وعن أهم خصائص الصكوك الإسلامية، أكد الغزالي أنها تمثل وثائق متساوية القيمة، وتستند إلى عقود شرعية وتأخذ أحكامها، وتمثل ملكية حصص شائعة في مشاريع أو منافع أو خدمات لها دخل، ولا تمثل ديناً في ذمة مصدرها، فضلاً عن أنها تقوم على المشاركة في الغُنم والغُرم والربح والخسارة؛ لأنها تعتمد على المشاركات المباحة والأنشطة الحلال؛ لأن الصكوك لا تخلق الائتمان ولا تساعد عليه، بل إن تداولها محكوم بضوابط شرعية بحسب طبيعة الموجودات.
عبدالواحد: عدم توافق بين الفتاوى ومستندات الصكوك ومآخذ على بعض تطبيقات صكوك المضاربة والمشاركة والإجارة
ضرورة اقتصادية
وعن الحاجة الاقتصادية والمالية لإصدار الصكوك، أكد د. محمد البلتاجي، رئيس الجمعية المصرية للتمويل الإسلامي، أنها تساعد على زيادة معدلات الادخار القومي من خلال قدرتها على تعبئة المدخرات خاصة لدى صغار المدخرين، كما أنها تناسب شريحة كبيرة من المتعاملين لأسباب تتعلق بتملكهم لموجودات حقيقية وتحقيق عوائد غير ثابتة، فضلاً عن أنها تعد بديلاً آخر لتوفير متطلبات السيولة لدى قطاع كبير من المستثمرين سواء لمشاريع قائمة أو مشروعات جديدة بدون أن يكون ملتزماً برد أصل المبلغ وأرباحه بغض النظر عن نتيجة الأعمال.
ويرى البلتاجي أن الصكوك يمكنها أن تساعد الدولة في الحد من عجز الموازنة من خلال توفير التمويل اللازم للمشروعات التنموية والاستثمارية، وتنشيط التداول في سوق المال حل أمثل لاستغلال فوائض السيولة في البنوك الإسلامية.
وعن استخدام الصكوك في اقتصاديات خارج الأيديولوجيا الإسلامية، لفت البلتاجي إلى أنه قد تم استخدامها في البلاد غير الإسلامية سواء في الدول الأوروبية والأمريكية بل والآسيوية؛ نظراً لما لاحظته من فوائد عظيمة في تطبيقها، بل إن كل أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي نشطت عند غير المسلمين وخاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008م مما جعلها تسهم في إبراز وجه الإسلام الإيجابي.
نور: الحجم العام للصكوك بماليزيا يمثل قرابة 40% من إجمالي الإصدارات العالمية
وينهي البلتاجي كلامه مؤكداً أن الصكوك تعد أهم منتج للمصرفية الإسلامية، بل إنها المنتج الذي حقق حضوراً غير مسبوق للمصرفية الإسلامية في أسواق المال الدولية.
ويكشف البلتاجي أن إصدارات الصكوك على مستوى العالم بلغت عشرات المليارات من الدولارات ولم تقتصر على الشركات الإسلامية، وإنما أصدرت الصكوك جهات غير إسلامية في الغرب والشرق، بل إنها في تزايد مستمر في كل المعاملات المصرفية الإسلامية الأخرى.
وعن أهم الاعتراضات والشبهات التي وجهت نحو تطبيقات الصكوك الإسلامية، يقول د. السيد عطية عبدالواحد، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس: رغم ما يتم ترويجه من ميزات الصكوك الإسلامية، فإن بعض الدراسات وجهت انتقادات عديدة إليها؛ منها أن تطبيقاتها المعاصرة تقلل من التزامها بخصائص النظام المالي والمصرفي الإسلامي، ولا تعكس بدرجة كافية الفروق الجوهرية التي تميزها عن سندات الدين في النظام المالي والمصرفي التقليدي، كما أن الاهتمام بهيكلة الصكوك انحاز إلى شكلية العقود على حساب الاهتمام بمقاصد الشريعة.
أيضاً، يرى البعض أن هناك عدم توافق تام بين الفتاوى ومستندات الصكوك وتطبيقاتها، حيث ثبتت بعض المخالفات الفقهية لتطبيقات الصكوك التي لم تلتزم بفتاوى مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والمجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية المالية الإسلامية بالبحرين، فضلاً عن مآخذ على بعض تطبيقات صكوك المضاربة والمشاركة والإجارة.
وقد قام خبراء الاقتصاد الإسلامي بالرد على تلك الانتقادات وتبريرها، وانتهوا إلى مطالبة الجهات التشريعية والتنظيمية والمؤسسات المالية والمصرفية بتوفير البيئة التشريعية الملائمة لإصدار الصكوك الإسلامية وتداولها وفق طبيعتها وشروطها الشرعية لآثارها الإيجابية على الاقتصاد العام والخاص، وبيان الحقوق والالتزامات لأطراف التعامل في الصكوك الإسلامية، وتخفيض المخاطر ذات العلاقة بالصكوك الإسلامية.
تجارب ملهمة
يشار إلى أن الصكوك الإسلامية تم إصدارها في عدة دول إسلامية، منها: دول مجلس التعاون وتركيا وإندونيسيا وإيران وباكستان والسودان وغيرها، وفي دول غير إسلامية، مثل: بريطانيا واليابان وألمانيا والولايات الأمريكية وغيرها.
عثماني: السنوات الأخيرة شهدت اتجاه باكستان إلى الأخذ بشهادات المرابحة وصكوك الإجارة ومدتها 5 سنوات
وقد ظهرت العديد التطورات على آليات تطبيق الصكوك، منها إصدار «الصكوك الخضراء» التي تسعى لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة والاستثمار المستدام، وخاصة مع التطور الكبير في الاستثمارات المتجددة والنظيفة، التي ارتفعت في العالم بنسبة كبيرة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفيما يلي نعرض لتجربتين من هذه التجارب، وهما:
تجربة ماليزيا:
وعلى مستوى التجارب العملية، يحدثنا د. أكرم نور الدين، الأمين العام لهيئة المؤسسات المالية بماليزيا، مؤكداً أن بلاده كانت سباقة في موضوع «الصكوك الإسلامية»، وقد عرفها مؤتمر الأكاديمية العالمية للبحوث الشرعية في ماليزيا بأنها أدوات مالية تصدر بهدف جلب رأس المال، وهي شهادة على المديونية والملكية والاستثمار في أصول الموجودات عن طريق الشريعة الإسلامية حسب ما قررته هيئة الرقابة الشرعية.
ويؤكد أنه تم تطبيقها كأداة مالية تمويلية واستثمارية حديثة، حيث كانت نشأتها الحديثة عام 1983م، عندما رفض أول بنك إسلامي في ماليزيا ويسمى «بنك إسلام ماليزيا» التعامل بالسندات المالية المخالفة لأحكام الشريعة، ثم قام البنك بإصدار صكوك استثمار لا تحتوى في آلياتها على الربا، وجاء طرح مشروع «سندات المقارضة الإسلامية» كبديل إسلامي لسندات القروض الربوية، وأعقب ذلك إصدار مجمع الفقه الإسلامي قراره عام 1988م بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار ليفتح الباب أمام المؤسسات المالية الإسلامية لاعتماد هذه الأدوات المالية الحديثة، وقامت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بإصدار معيار شرعي لصكوك الاستثمار حددت فيه المبادئ الأولية لإصدار وتداول جميع أنواع الصكوك التي تم ابتكارها.
وكشف د. نور الدين أن الحجم العام للصكوك في بلاده يمثل قرابة 40% من إجمالي الإصدارات العالمية.
وأشار إلى إمكانية استفادة الدول العربية والإسلامية من تجربة ماليزيا التي نجحت في تطبيق مختلف أنواع الصكوك الإسلامية المتنوعة التي بلغ عددها 14 نوعاً ذكرتها هيئة المراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وهي: الاستثمار، المضاربة، الاستصناع، المرابحة، الإجارة، التجارة، السلم، المنافع، منافع الأعيان الموعودة، الخدمات من المتعهد، الخدمات المتاحة، المزارعة، المغارسة، المساقاة.
تجربة باكستان:
وعن تجربة باكستان مع الصكوك، يشير د. محمد عثماني، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة دار العلوم كراتشي، إلى أن بلاده قامت عام 1980م بإصدار شهادات المشاركة لآجال متوسطة وطويلة الأجل بديلاً عن إصدار السندات بفائدة، وتمول شهادات المشاركة أفراداً ومؤسسات، وتعطي عائداً كل 6 أشهر تحت الحساب لحين التسوية النهائية، واتجهت باكستان لتشجيع التعامل بهذه الصكوك في السنوات الأولى من التعامل بها إلى ضمان حد أدنى من الربح لشهادات أو الصكوك المشاركة.
وأوضح عثماني أن السنوات الأخيرة شهدت اتجاه باكستان إلى الأخذ بصكوك أو شهادات المرابحة وصكوك الإجارة ومدتها 5 سنوات، وتم تحديد العائد على الصكوك على أساس معدلات التعامل بين البنوك الدولية في لندن بالدولار الأمريكي لمدة 6 أشهر، بالإضافة إلى 220 نقطة أساسية، وشارك بنك دبي الإسلامي في إدارة هذه الصكوك التي شهدت إقبالاً كبيراً فاق التوقعات آنذاك، وتكرر هذا الإصدار مرات عديدة وتمت زيادته بعد الإقبال الشديد من المستثمرين، مؤكداً أن الحكومة الباكستانية أصدرت هي الأخرى صكوكاً إسلامية لاقت قبولاً كبيراً وثقة المتعاملين فيها.