كثيراً ما تطغى السياسة على الإنسانية، وتقف كل دولة تحدد صديقها وعدوها وفقاً لما تراه حكومتها، يفرضون العقوبات أو يقدمون المعونات، وبين هذا وذاك تبقى الشعوب متآزرةً متكاتفة، يتجرعون نفس الألم وينشدون نشيد الحرية، ويقولون قول الشاعر:
شكواكَ شكوايَ يا مَن تكتوي ألماً ما سال دمعٌ على الخدين سال دمُ
مع إثارة القضية الفلسطينية على الساحة السياسية، بما حدث في القدس وحي الشيخ جراح، والعدوان «الإسرائيلي» على غزة، خلال أبريل ومايو الماضيين، وعودة الزخم والتضامن العربي والإسلامي مع فلسطين؛ برزت دولة جنوب أفريقيا في الصفوف الأولى المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، مستدعيةً معها تاريخاً طويلاً لم تنفك فيه عن دعم القضية الفلسطينية، وعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني.
المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» ظل مطلباً شعبياً منذ ظهور الديمقراطية بجنوب أفريقيا عام 1994م
لماذا تدعم جنوب أفريقيا فلسطين قلباً وقالباً؟ وكيف تجرع الشعبان الألم نفسه؟ ولماذا يعتقد الجنوب أفريقيون أن حريتهم لن تكتمل بدون تحرير فلسطين، رغم أن جنوب أفريقيا دولة غير عربية وليس بها أغلبية مسلمة؟ في هذا التقرير نتعرض لهذه القضايا.
شهدت شوارع جنوب أفريقيا العديد من الفعاليات المختلفة على المستوى الشعبي والرسمي لنصرة فلسطين والتنديد بالاحتلال، خلال الأحداث الأخيرة في دولة فلسطين وتصاعد العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة والمسجد الأقصى.
فخرج متظاهرون في عدة محافظات ملوحين بالأعلام الفلسطينية، في مسيرات توجهت إلى البرلمان وإلى مقر السفارة «الإسرائيلية» وغيرها من المناطق؛ للتعبير عن استيائهم من جرائم الاحتلال، ودعت الفعاليات إلى موقف رسمي أكثر تأثيراً، ودعم شعبي وإنساني أوسع للفلسطينيين.
وفي خطابه، شدد الرئيس الجنوب أفريقي «سيريل رامافوزا» على ضرورة إيجاد حل سريع لما يحدث في فلسطين، وأشار إلى أن مشهد الرجال والنساء والأطفال الذين طُردوا من منازل عائلاتهم على مدى أجيال، وعمليات الإزالة القسرية وسلب الأراضي، تعيد ذكريات جماعية وشخصية مؤلمة لغالبية سكان جنوب أفريقيا.
كما ادّعى «ريبيك» أنه اكتشف أرضاً خالية من السكان بجنوب أفريقيا ادّعت الحركة الصهيونية أنّ فلسطين أرض بلا شعب
في مايو الماضي، عندما هاجمت قوات الاحتلال «الإسرائيلي» المصلين في المسجد الأقصى، كانت جنوب أفريقيا تستعد لإحياء الذكرى المئوية لمذبحة «بولهوك» التي حدثت في منطقة الكيب الشرقية؛ حيث أطلقت قوات نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) النار بالمدافع الرشاشة والمدفعية على المصلين؛ ما أسفر عن مقتل أكثر من 160 شخصاً، وإصابة ما يقرب من 130 آخرين.
وذكر الرئيس «رامافوزا»، في تصريح له، أن هذه المذبحة لم تكن تتعلق فقط بنزاع محلي، ولكنها في الأساس بسبب المصادرة القسرية للأرض، والاحتلال الاستعماري، والتمييز العنصري، والقمع العنيف للمعارضة كما يحدث في حي الشيخ جراح الآن.
مقاطعة “إسرائيل” مطلب شعبي
وتَقصياً لنبض الشارع هناك، يؤكد الصحفي عبدالعزيز أبوبكر، بجنوب أفريقيا، في حديثه مع «المجتمع»، أن سكان جنوب أفريقيا، ولا سيما السود منهم، دعموا النضال الفلسطيني لعقود عديدة، منذ نشأة حركة تحرير جنوب أفريقيا؛ التي كان لها علاقة وثيقة بمنظمة التحرير الفلسطينية، واستمر ذلك حتى بعد تحرر جنوب أفريقيا، ويزداد هذا الدعم عندما يكون هناك حدث معين في فلسطين مثل الهجوم على غزة وغيرها، إلا أن الدعم مستمر وغير منقطع للقضية الفلسطينية.
وأشار أبو بكر إلى أن التضامن الشعبي والاحتجاجات والمسيرات وحملات المقاطعة من الشارع والناس هو ما يحرك الحكومة ويضغط عليها لتقوية موقفها، وأضاف أن المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» ظل مطلباً شعبياً منذ ظهور الديمقراطية في جنوب أفريقيا في عام 1994م، وهو مطلب ثابت من حركات التضامن في البلد والنقابات العمالية وغيرهم من المتضامنين مع القضية الفلسطينية، مع أنه من غير المرجح أن ترضخ الحكومة لهذا المطلب قريباً؛ لكن الضغط باتجاهه مستمر وثابت.
«إسرائيل» جاءت في سياق مشروع أوروبا الاستعماري الذي تبلور بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر لتكون أداة لها
وبحسب أبي بكر، فإن هناك أسباباً عديدة تجعل الجنوب أفريقيين يدعمون أشقاءهم في فلسطين، فجنوب أفريقيا تعد واحدة من أحدث الدول التي حققت استقلالها، وبالتالي فإن لغة مناهضة الاستعمار، ومناهضة أنظمه الفصل العنصري، تعدان جزءاً كبيراً من حياة جنوب أفريقيا وشعبها، ومن خلال ذلك يستطيع الجنوب أفريقيون رؤية الاستعمار والاحتلال ونظام الفصل العنصري في فلسطين بشكل واضح ومعرفة حقيقة ما يحدث هناك.
كما أن اعتراف جنوب أفريقيا بما تقوم به «إسرائيل» ضد الفلسطينيين؛ كأعمال الفصل العنصري القمعي وغيره، جعل سكان جنوب أفريقيا يشعرون أنهم شخصياً مرتبطون بهذا الأمر لأنهم عايشوا مرارته.
وأفاد أبو بكر أن حكومة جنوب أفريقيا تؤكد دائماً الحاجة إلى القانون الدولي، في حين تنتهك «إسرائيل» العديد من قرارات الأمم المتحدة واتفاقية جنيف وغيرها بشكل واضح، وهو ما يدعو إلى تشديد الحكومة على دعمها للقضية الفلسطينية.
تاريخ مشترك من الألم
يبقى عام 1948م من أهم الأعوام بالنسبة للجنوب أفريقيين والفلسطينيين؛ ففي كلتا الحالتين خلق الاستعمار البريطاني الظروف الملائمة لممارسة التمييز والتفرقة العنصرية بحق الشعوب والسكان الأصليين.
وسائل نضال الفلسطينيين تشابهت مع جنوب أفريقيا بدءاً بالعمليات الفدائية وانتهاء بالمفاوضات
فكما ادّعى «جان ريبيك»، وهو أول مستوطن تطأ قدماه أرض جنوب أفريقيا، أنه اكتشف أرضاً خالية من السكان، ادّعت الحركة الصهيونية أنّ فلسطين أرض بلا شعب، وكما ادّعت الكنيسة الهولندية أن البيض المستعمِرين هم «صفوة شعوب الأرض»، وأن السود خُلقوا عبيداً لهم، ادّعت الصهيونية أنّ اليهود هم «شعب الله المختار»، وكما أطلق الغزاة الهولنديون على جنوب أفريقيا اسم «معسكر الأمل الجميل»، أطلق المستوطنون اليهود الأوائل على فلسطين نشيد الأمل «هتكفا».
والغريب أنّ دولة البيض في جنوب أفريقيا كانت تدّعي أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في القارة الأفريقية، تماماً كما تدّعي «إسرائيل» أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، رغم كلّ ما تمارسانه من تمييز عنصري واضح ضد الشعب، ورغم كل جرائمهما ضد السكان.
ومن ناحية أخرى، فقد جاءت دولة البيض في جنوب أفريقيا في سياق التنافس على المستعمرات الخارجية بين الدول الأوروبية، كان أول من انتبه إليها الهولنديون، ثم تبعهم البريطانيون في مرحلة لاحقة في إطار صراعهم مع فرنسا؛ فتنبهوا لهذه الدولة لوقوعها على خط التجارة الدولية، ورغم أن أهميتها الإستراتيجية تضاءلت بعد شق قناة السويس، فإنها أصبحت مشروعاً استعمارياً محلياً مستقلاً لطبقة من البرجوازية الأوروبية الطامعة.
بينما جاءت «إسرائيل» في سياق مشروع أوروبا الاستعماري، الذي تبلور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لتكون أداة لها، وموقعاً متقدماً يحمي مصالحها في واحدة من أهم المناطق في العالم، ثم في مرحلة لاحقة على إثر تغيرات جذرية في بنية النظام العالمي حوّلت «إسرائيل» ولاءها للولايات المتحدة الأمريكية؛ بمعنى أن «إسرائيل» كانت وما زالت تمثل مشروعاً حيوياً للحضارة الغربية، وتستمد أسباب قوتها ومبررات وجودها من خلال العلاقات بدول الغرب.
قانون الجنسية الذي يتعامل مع الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية يُشبه وضع السود والهنود بجنوب أفريقيا
وقد تشابه الشعبان كذلك في وسائل وأدوات النضال؛ فقد مارس الفلسطينيون كافة أشكال النضال الوطني (عمليات فدائية، تفجير، مواجهات عسكرية، مظاهرات، انتفاضات شعبية، مقاومة مدنية سلمية، مواجهات سياسية ودبلوماسية، مفاوضات مباشرة وغير مباشرة).
وفي المقابل، نجد أن المؤتمر الوطني الأفريقي اتخذ المنحى نفسه تقريباً؛ فهو بدأ نضاله معتمداً على أسلوب الحوار مع الحكومة، ثم بدأ بتصعيد المقاومة المدنية السلمية كالإضرابات وحملات التحدي والدعوة للعصيان المدني، ثم تبنى الكفاح المسلح في مستهل الستينيات من القرن الماضي، ثم ركز جهوده على الساحة الدولية لممارسة ضغط على النظام عبر المقاطعة وفرض العقوبات، وأخيراً لجأ إلى المفاوضات المباشرة.
كما أنّ كلاً من الثورة الفلسطينية والمؤتمر الوطني الأفريقي حظيا بقيادة حكيمة؛ مثل الزعيم ياسر عرفات، والشيخ أحمد ياسين في فلسطين، والزعيم نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذين صاروا رموزاً وطنية لقضاياهم ومثّلوها على مستوى العالم، وكان لذلك تأثير كبير في كسب التعاطف الدولي وتأييد الرأي العام الشعبي والعالمي، وبالتالي منح القضية مزيداً من أوراق القوة على الساحة السياسية الدولية.
الفصل العنصري يوحد الشعبين
في كتابه «العنصرية كما شرحتها لابنتي»، يُعرّف الأديب المغربي الطاهر بن جلون العنصرية بأنها «اعتقاد الفرد أو المجموعة بالتفوق والتميز عن الآخرين، بسبب لون البشرة أو العرق»، أما التفرقة العنصرية فهي فصل مجموعة اجتماعية أو إثنية عن الباقي، ومعاملتها معاملة سيئة.
تتمثل الركائز الأساسية الثلاث لدولة الفصل العنصري في: التمييز العرقي، والاضطهاد، والتشظية الإقليمية (المناطقية)، فيقول البروفيسور «جون دوجارد»، خبير قانوني من جنوب أفريقيا، وهو المقرر السابق لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين: إنه عندما زار «إسرائيل» وفلسطين المحتلة لأول مرة، صُعق لِما وجده من تشابه بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وممارسات «إسرائيل» في الأرض الفلسطينية المحتلة.
صحيح أن دولة جنوب أفريقيا كانت تمارس التمييز العرقي والقمع ضد شعبها إبان فترة الفصل العنصري، أما «إسرائيل» فتمثل قوة احتلال تسيطر على أرض أجنبية، لكن كلا النظامين يتشابهان في ممارسة التمييز العنصري على أرض الواقع.
ففي عام 1948م، تم تهجير ما يزيد على 750 ألف فلسطيني قسراً من منازلهم بهدف خلق الظروف الديمغرافية لإنشاء دولة مقتصرة على اليهود من قبل الحركة الصهيونية، وباستطاعتنا أن نرى مزيجاً من القوانين العنصرية والدكتاتورية العسكرية، مثل حواجز التفتيش، والإغلاق والحصار، وجدار الفصل العنصري، والمستعمرات، والطرق التي يستخدمها المستعمرون فقط، وبطاقات تعريف الهوية، واللوحات الرقمية الملوّنة للسيارات والتصاريح ذات الأصناف المختلفة، التي تشير بمجموعها إلى تفرقة عنصرية، كما نجد قوانين مثل اكتساب الأرض، وقانون الدخول إلى «إسرائيل»، وقانون الخدمة العسكرية؛ فقد عمل الاحتلال على نظام تفرقة معقّد، وأرفقه بنظامه القضائي مضاهياً بذلك النظام العنصري الجنوب أفريقي.
فعندما احتل المستعمرون البريطانيون والهولنديون جنوب أفريقيا بالقوة العسكرية، حقق النظام العنصري أطماعه في الاستحواذ على الأراضي، من خلال تشريع سلسلة من القوانين التي سهّلت مهمته في السيطرة على الجنوب أفريقيين وتفريقهم في «كانتونات» جغرافية عنصرية، وتشمل هذه القوانين قانون «نظام العبور» للسيطرة على حركة السكان الأصليين وإجبارهم على العيش فقط في معازلهم المخصصة، هذه المعازل تشكّل 13% من الأرض، وشُرّعت قوانين أخرى لتقسيم السكان بحسب عروقهم وقبائلهم.
وكذلك قامت «إسرائيل» بتجزئة المناطق الفلسطينية إلى «كانتونات» معزولة عن بعضها بشكل شبه كامل، فهناك ما يسمى «داخل الخط الأخضر»، التي يُحظر على سكان الضفة الغربية والقطاع دخولها إلا بموجب تصاريح خاصة لا تُمنح بسهولة، وهناك منطقة القدس، التي أصبح مجرد دخولها مهمة شاقة وصعبة وأحياناً مستحيلة، وهناك قطاع غزة والضفة الغربية التي صار التنقل فيما بينهما شبه مستحيل، وكل منطقة منهما صارت مغلقة ومحاطة بالجدران والأسلاك الشائكة والمعابر الحدودية التي يتحكم بها جنود الاحتلال، وحتى الضفة الغربية نفسها صارت مجزأة إلى 3 مناطق؛ شمال، ووسط، وجنوب، وصارت كل مدينة وبلدة محاطة بالمستوطنات والحواجز العسكرية.
وأيضاً صدور قانون الجنسية الذي يتعامل مع الفلسطينيين في فلسطين المحتلة كمواطنين من الدرجة الثانية، يُشبه وضع السود والهنود في جنوب أفريقيا حين أُعطوا حق التصويت في البرلمان الثلاثي بصورة شكلية دون أن يكون لهم سيادة، وما زالت «تل أبيب» تنظر للعرب كخطر ديمغرافي لا كمواطنين متساوين مع غيرهم، وتمارس عليهم سياسات التمييز العنصري المُمنهج، لعل أهمها وأخطرها سياسات التهويد المنظمة للقدس والنقب والجليل والمدن العربية.
وهكذا دعمت جنوب أفريقيا فلسطين دائماً، رغم أنها تحررت من نظام الفصل العنصري نهائياً في عام 1994م، إلا أن ألمها ما زال حياً في فلسطين، ونضال شعبها ما زال قائماً في وجدان كل فلسطيني، ويشهد الجنوب أفريقيون تاريخ جراحهم في ممارسات اليهود في فلسطين، ولهذا يرون أن حريتهم ناقصة دون تحرير فلسطين، ويحفظون كلمة الزعيم نيلسون مانديلا عن ظهر قلب: «إننا نعتقد جيداً أن حريتنا لا تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين».
_______________________________________________
1- موقف رسمي خجول.. مظاهرات بجنوب أفريقيا ضد القصف الإسرائيلي على غزة والقمع في القدس، الجزيرة نت، 17 مايو 2021م.
2- سلامة، عبدالغني، أوجه التشابه والاختلاف بين قضيتي فلسطين وجنوب أفريقيا – دراسة مقارنة، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية.
3- فالي، سليم، التمييز العنصري في فلسطين وجنوب أفريقيا، مجلة حق العودة، عدد مايو 2006.
4- أبو بكر، عبدالعزيز، استحضرت عقود نظام الأبارتايد.. مظاهرات وفعاليات شعبية واسعة بجنوب أفريقيا متضامنة مع فلسطين، الجزيرة نت، 19 مايو 2021.
5- بروفيسور دوجارد، جون، نظام وممارسات الفصل العنصري في كل من جنوب أفريقيا وفلسطين، مجلة حق العودة، عدد ديسمبر 2011.
(*) صحفية مهتمة بالشأن الأفريقي.