في المرحلة التي عاصرتها طفلا ثم شابا والممتدة من أواخر الستينيات حتى أواخر الثمانينيات، كانت الجرائد الورقية المطبوعة جزءا مهما من حياتنا وعاداتنا، بل وتمثل طقسا من الطقوس المقدسة عند بعضنا.
كنا نراها في طفولتنا المبكرة تحت إبط رجال بيتنا وهم عائدون من وظائفهم، وبعد تجاوز الطفولة المبكرة وخروجنا للشارع كان بائع الجرائد جزءًا من المشهد البصري لشكل المدينة وشوارعها؛ حيث لا يخلو شارع رئيس من شوارع المدينة من وجود أكثر من بائع للجرائد، وكان أقرب بائع جرائد لبيتنا بجوار كركون اللبان في شارع السبع بنات عند حلواني الزلباني.
“كشك الجرايد” -كما كنا نسميه- عبارة عن إطار خشبي مثبت في الحائط مع أرفف خشبية، وأمامه طاولة خشبية على قوائم مرتكزة على الرصيف، ومرصوص عليها منوعات من الجرائد والمجلات، ومجموعة أخرى مرصوصة مباشرة على أرضية الرصيف، وأخرى معلقة على أحبال مثل أحبال نشر الغسيل، ومثبتة في الحبل بمشابك غسيل.
علاقتي بالمشهد البصري لمعروضات بائع الجرائد مرتبطة بمراحل عمري، بدأت بالصور الكاريكاتورية لمجلات “ميكي” و”سمير”، ومعها مرحلة قراءة كتب: “ميكي” و”سمير” و”تانتان” و”المغامرون الخمسة” وكتب الألغاز، وكنا نتبادل تلك الكتب فيما بيننا كأصدقاء في البيت أو المدرسة، وكان بائع الجرائد يسمح بشراء البَدَل، يعني نشتري مجلة ثم نعيدها ونأخذ مجلة بديلة.
ومع مرحلة المراهقة زاغ بصري نحو صور أغلفة مجلة “الشبكة” و”الصياد” و”الكواكب” وبعض المجلات الأجنبية، وكانت هذه المجلات من المحظورات داخل البيت، وكنت أختلس الفرصة لتجاوز المحظور، حين أجدها في أحد بيوت الجيران.
ومع مرحلة النضج تفتحت عيوننا على مجلة “المعرفة” وهي من أثرى المجلات بالمعرفة المنوعة والمصورة بغاية الجاذبية والبساطة وكانت تطبع في سويسرا (وأول أعدادها طبع عام 1971)، ويتم تجميع كل مجموعة أعداد منها في مجلد أحمر اللون ما زلت محتفظا بالعديد من أعداده حتى اليوم، ثم أعداد مجلة “العربي” الكويتية بطباعتها الأنيقة وموضوعاتها الشيقة وملحقها للأطفال.
في تلك المرحلة المبكرة من حياتي وأنا في المرحلة الإعدادية ثم الثانوية، كان عندي أرشيف من قصاصات الصحف التي أجمعها، وظللت محتفظا بها لسنوات طويلة في صندوق خشبي أسود فوق سندرة الحمام، كان منها صور فريق الاتحاد السكندري الفائز بكأس مصر عام 1973 و1976، وكنت في هذه الفترة أشجعه بحرارة، وقصاصات لكبار الكتاب في مقالاتهم التي تعجبني، وأذكر منها مقالات في السيرة النبوية كتبها أنيس منصور، وقصاصات الصحف حول أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية التي بدأَتْ وأنا في الصف الأول الثانوي، وكنت أتابعها خطوة بخطوة بغاية الحماس والشغف.
كان خالي “منصور” يراني وأنا أفعل ذلك رغم حداثة سني فيقول لأمي: “ابنك ده غريب جدا، كل من هو في مثل سنه يكتفون بصفحة الرياضة ومشاهدة الصور، وابنك مشغول بالمقالات السياسية والأدبية.”!
خلال السبعينيات والثمانينيات، كان جيلنا يتابع مقالات مصطفى محمود وتوفيق الحكيم وأنيس منصور وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وجلال الدين الحمامصي ومصطفى أمين.
حين أستعرض المشهد البصري لبائع الجرائد خلال تلك الفترة ترتسم في ذهني صورة لتطور الحركة الثقافية والسياسية في مجتمعنا.
المشهد ما قبل الثلاث سنوات الأخيرة من السبعينيات، كان مشهدا تقليديا تسيطر عليه الجرائد الثلاث المعتادة (أخبار أهرام جمهورية)، وما قبل السبعينيات كانت صور الزعيم جمال عبد الناصر ثم صور جنازته التاريخية، وبعدها صور الرئيس الجديد التي بدت باهتة في البداية، وعموم الناس غير مقتنعين بالرئيس الجديد الذي يفتقد لطلة وكاريزما الرئيس السابق، ومع الوقت ازدادت صورته لمعانا حتى مرحلة التألق والتأنق في حرب أكتوبر وما تلاها، وظل المشهد تقليديا متوارثا في تمجيد الزعيم وإنجازاته ووعوده وفرحة الشعب بكل قراراته.
ومع السنوات الثلاث الأخيرة من السبعينيات وصولا لمرحلة الثمانينيات كاملة، تبدل المشهد عند بائع الجرائد، وصار أكثر حيوية وجاذبية وإثارة وتنوعا، فقد سمحَ “السادات” بإعادة تشكيل الأحزاب وإعادة صدور الجرائد الحزبية.
وبدت عند بائع الجرائد أسماء جديدة منافسة مثل جريدة الوفد والشعب والأحرار ولواء الإسلام وغيرها.
وبدأ يضاف للكُتَّاب الذين كنا نتابعهم بشغف كُتَّاب جدد بدت أكثر لمعانا وبريقا بما بدأت تطرحه من أفكار ونقد لسياسات الحكومة وفتح لملفات فساد، وكان منهم: مصطفى شردي رئيس تحرير جريدة الوفد الجديد، وعادل حسين رئيس تحرير جريدة الشعب لسان حزب العمل الاشتراكي، ومقالات الأستاذ عمر التلمساني والدكتور أحمد الملط والشيخ محمد الغزالي وغيرهم.
في هذا الوقت من نهاية السبعينيات ثم الثمانينيات كانت حرية الصحافة تسمح بتنوع كبير في الآراء، وأتاحت فرصة القراءة لأقلام متنوعة المشارب والاتجاهات والأفكار، وأصبحت بمثابة عصف ذهني نمارسه نحن معشر القراء من الشباب في مناقشاتنا، ومصدر ثراء فكري كبير ما زلنا نعيش على أثره حتى الآن.
وانتقلت من مرحلة الكاريكاتور والكلمات الساخرة التي كان يرسمها ويكتبها صلاح جاهين ضد الشيخ محمد الغزالي وأمثاله دون إتاحة فرصة الرد لهم، إلى سجال فكري علني بين الكبار، مثل المعارك الفكرية بين زكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم من جهة والشيخ الشعراوي من جهة أخرى، وتعلمنا منها كيف يكون الأدب والرقي بين المختلفين.
كانت هذه صورة الجرائد عند بائع الجرائد التي مثلت لي صورة سياسية وثقافية لعصر كامل، وعلى التوازي مع عالم الجرائد، كان هناك حركة لعالم الكتب.