تقريباً لا توجد أسرة عربية لا يعاني أحد أفرادها –خاصة من صغار السن- من بعض الآثار السلبية للألعاب الإلكترونية، التي باتت تمثل قنابل موقوتة في كل بيت؛ فهي قابلة للانفجار في أي وقت، حتى إن بعضها ذهب بأرواح بريئة، سواء بالانتحار أم الاكتئاب أم فقدان التوازن النفسي والاجتماعي.
ورغم التحذيرات التي يوجهها الخبراء، فإن الخطر ما زال متزايداً، ومن هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي ندق به ناقوس الخطر لإنقاذ أسرنا من هذه الكارثة المسماة «الألعاب الإلكترونية».
الحملاوي: مصمِّموها يحرصون على خداع العقل البشري بالتشويق حتى لا يمل اللاعب لسنوات
في البداية، يوضح د. محمد يونس الحملاوي، أستاذ تكنولوجيا الحاسبات بكلية الهندسة بجامعة الأزهر، أن «اللعبة الإلكترونية» هي نشاط يشارك فيه اللاعبون عبر وسيلة إلكترونية ليدخلوا في صراع أو نزاع أو منافسة مُفتعلة، ويقوم مصممو اللعبة بوضع قواعد معينة تؤدي إلى نتائج للمنافسة بين اللاعبين، وتكون قابلة للقياس الكمي؛ بحيث تؤدي إلى السيطرة على عقلية المتنافسين ليستمروا في ممارسة اللعبة، ليس على سبيل الاستمتاع بها فقط، بل للتغلب على المنافسين بأي وسيلة.
الجزار: قضاء وقت كثير باللعب في مكان واحد يجعل مفاصل اليدين والأصابع مخدرة بسبب الإجهاد المفرط
وحذر د. الحملاوي من وقوع الكثيرين فريسة وضحية لهذه الألعاب التي تقوم على إحدى الإستراتيجيات المطبقة في علم النفس وثبت نجاحها، ويطلق عليها «نظرية صندوق سكنر» التي تقوم على تجربة كيفية دراسة سلوك الأشخاص لتغييرها عن طريق الثواب بالمكافأة أو العقاب بالخصم، ويحرص مصممو الألعاب على خداع العقل البشري بالتشويق والإثارة؛ حتى لا يمل اللاعب من لعبته المفضلة حتى لو لعبها لأيام وأسابيع وسنوات، وعادة ما تكون بداية اللعبة بسيطة، ثم تتطور لتزداد صعوبة على مستويات لكل منها ما يميزه، ويتم منح اللاعب سلاحاً أو نقاطاً أو ميزات جديدة لتزداد اللعبة فعالية في ظل حالة التحدي التي تصل إلى المراهنة والمغامرة، ويتم رصد مكافآت تشجيعية متنوعة أثناء اللعب.
عامر: يجب مراقبة منصاتها والحسابات التي تُروج لها وتشديد الرقابة على محال بيعها
كما يشير د. الحملاوي إلى أن تأثير الألعاب الإلكترونية يختلف حسب تصميمها؛ لأن لكل منها تصميماً لأغراض متنوعة؛ فمنها ما هو مسلٍّ ومريح، ومنها ما هو صعب معقد، ولهذا فإنه ليست كل الألعاب جيدة للجميع؛ فقد يكون لبعضها آثار سلبية على البعض وإيجابية على البعض الآخر، ولكن المتفق عليه أن استخدامها لساعات طويلة له مخاطر متفاوتة بصرف النظر عن تصميمها.
عبدالوهاب: أثبتت الدراسات أن الاستخدام الرشيد لهذه الألعاب له بعض الفوائد مثل تنمية العقل
أضرار صحية
أما الأضرار الصحية السيئة للألعاب الإلكترونية على الأطفال، فأكد د. ممدوح الجزار، مدير مستشفى قليوب بمصر، استشاري الجراحة العامة، أن الدراسات الطبية أكدت أن المخاطر الصحية لإدمان الألعاب الإلكترونية كثيرة، وأهمها: الإصابة بالسمنة نتيجة قلة الحركة، وضعف العضلات، وتدمير صحة العين لإصابتها بالإجهاد مما يؤدي إلى مشكلات عديدة، ومنها قصر وضعف النظر، وزيادة العصبية، كما أن الجلوس بوضعية خاطئة لفترات طويلة يسبب مشكلات بالعمود الفقري، وآلام الكتفين والرقبة، وكذلك فإن كثرة التعرض لإشعاعات أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف يسبب الأرق واضطرابات النوم وضعف الانتباه والتركيز، والصداع النصفي؛ ما يضعف التحصيل الدراسي للطلاب، ويضر بقية الفئات العمرية.
التابعي: لعب الصغار أكثر من 35 ساعة أسبوعياً يصيبهم بالاكتئاب بدرجات متفاوتة
وأوضح د. الجزار أن قضاء الكثير من الوقت في الألعاب الإلكترونية في مكان واحد يجعل مفاصل اليدين والأصابع مخدرة بسبب الإجهاد المفرط، كما أن الأطفال قد يصابون بأمراض الكلام مثل التلعثم بدرجاته المختلفة.
وأشار إلى أنه في عام 2018م، قامت منظمة الصحة العالمية بوضع الاضطرابات الصحية المصاحبة للألعاب الإلكترونية في التصنيف الدولي للأمراض فيما يعرف باضطرابات الألعاب الإلكترونية، مع التحذير من سلبية الأنماط السلوكية لهذه الألعاب وقضاء كثير من الوقت فيها وصعوبة تحكم المشاركين بها في الوقت لدرجة أنها تؤثر سلباً على أولوياته ومهامه الحياتية.
شفيق: بعض الشركات تنفذ إستراتيجية خطيرة هي «المكافأة والعقاب» لخداع العقل بشراء وبيع نقاط وهمية
وأنهى د. الجزار كلامه بالتحذير من التأثير السلبي لهذه الألعاب على دماغ المشاركين فيها؛ حيث يتم إفراز مادة كيميائية تسمى «الدوبامين» تساعد على شعور اللاعبين بالسعادة والنشوة المفتعلة بشكل متكرر يرتبط بالمكافآت التشجيعية التي يتم اللعب عليها كثيراً.
اضطرابات نفسية
ويرصد د. أيمن عامر، مدير مركز الدراسات النفسية بجامعة عين شمس، العديد من الأمراض النفسية التي تصيب مدمني الألعاب الإلكترونية، أهمها: هناك فئة من مدمني هذه الألعاب يصابون بـ»قسوة القلب» بسبب ممارسة الألعاب العنيفة؛ لأن شعوره بالرحمة والتعاطف مع الآخرين يقل تدريجياً، وتصاب فئة أخرى بالانخفاض التدريجي في مستوى الثقة بالنفس؛ فيزداد شعور أفرادها بالوحدة وتفضيل العزلة، وتصاب فئة ثالثة، وهم الطلبة في مختلف مراحل التعليم، بانخفاض الأداء وعدم التركيز الدراسي بشكل كافٍ، كما تصاب فئة رابعة بعدم التعامل الصحيح مع المواقف الحياتية نتيجة الخلل النفسي والذهني والاجتماعي والاقتصادي، ويتوقف مدى التأثير على كل فئة حسب طول مُدة اللعب ونوع اللعبة التي يمارسها اللاعب وطبيعة متغيراته الفردية.
وفي هذا السياق، طالب د. أيمن عامر بمراقبة منصات الألعاب الإلكترونية التي انتشرت بشكل لافت، والحسابات التي تُروج للعديد من الألعاب، كما طالب بتشديد الرقابة على محال بيع تلك الألعاب الإلكترونية، ومنع التجاوزات في ذلك من خلال تسريب وبيع مجموعة من الألعاب والبرامج التي تتعارض مع تعاليم الدين وعادات وتقاليد المجتمع، وتفسد عقول ونفسية كل أفراد المجتمع، خاصة فئة الأطفال والمراهقين.
كما حذر د. عامر من أن وجود بعض الإيجابيات السابقة للألعاب الإلكترونية لا ينفي خطورة تأثيرها السلبي، حتى إن الأمر يصل في بعض الحالات إلى الانتحار مثلما حدث مع العشرات من مدمني لعبة «الحوت الأزرق» الذين أصيبوا بالاكتئاب –خاصة الأطفال- فيصعب عليهم بذل جهدهم الطبيعي حتى عند فعل الأشياء التي يحبونها، وإذا تضاعف الألم النفسي يفكر في الانتحار.
وأوضح د. عامر أنه من المهم التفرقة بين ثلاثة أنواع من الاكتئاب؛ أولها: الكآبة الطبيعية عندما يكون الإنسان كئيباً بطبعه، وثانيها: العواطف اليومية التي تحدث للإنسان في حياته اليومية بشكل عرضي مؤقت، وثالثها: الاكتئاب المرضي الذي يستمر لفترة أو يمنعه من أنشطته المعتادة وعلاقته بأسرته وأصدقائه، وعندما يكون الألم النفسي شديداً يدفع الإنسان إلى التفكير في إيذاء نفسه أو الانتحار.
خلل اجتماعي
من جانبه، حذر د. جودة عبدالوهاب، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، من أن التطور التكنولوجي الهائل المستمر زاد عدد مدمني الألعاب الإلكترونية من مختلف دول العالم، وفي كل الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية، خاصة الأطفال الذين يقبلون عليها بدون وعي منهم أو نصائح من أسرهم لشغل أوقات فراغهم أو إلهائهم عنهم بهذه الألعاب الإلكترونية، ولم يدركوا أنها تؤثر سلباً على تفاعل أولادهم مع الآخرين والميل للانطواء والاكتئاب مما يؤدي إلى ابتعاد عن أنشطة تنمية المهارات.
لكن د. جودة أشار إلى أن الكثيرين يظنون أن الألعاب الإلكترونية كلها شر، وهذا خطأ كبير؛ لأن الدراسات التربوية والاجتماعية أثبتت أن الاستخدام الرشيد للألعاب الإلكترونية له فوائد عديدة، مثل: تنمية العقل وخاصة الألعاب التي تنمي الذكاء، إلا أن الخطر الاجتماعي الأكبر لهذه الألعاب الإلكترونية عندما تكون عنيفة لأنها تؤدي إلى ميل للعنف والعصبية الزائدة مع من يتعاملون معهم، كما أن الألعاب العنيفة التي يلعبها الأطفال والمراهقون والشباب تجعلهم أكثر عدوانية، ومن الصعب التخلي عنها، بل إنها قد تكون إحدى وسائل تغذية وتنمية الجريمة الاجتماعية بمختلف أنواعها، وهذا يتطلب تشريعاً حازماً للتصدي لحماية المجتمع من مخاطرها.
وحول وسائل الوقاية من مخاطر هذه الألعاب الإلكترونية، وجهت د. وجيهة التابعي، الأستاذ بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، مجموعة من النصائح التربوية المهمة في هذا السياق، أهمها أن يتم تحديد وقت معين خلال اليوم لاستخدام الألعاب الإلكترونية، والسعي لممارسة بعض الأنشطة الأخرى لتنمية المهارات وزيادة الثقافة، مثل القراءة وممارسة الرياضة وغيرهما، وبالنسبة للأطفال فيجب حرص أحد الوالدين على التفاعل مع الطفل أثناء لعبه إلكترونياً كنوع من التواصل الإيجابي بين أفراد الأسرة والتعرف على موهبة الطفل لتنميتها.
وحذرت د. التابعي من الاستخدام المفرط للألعاب الإلكترونية العنيفة؛ لأنها تصيب الإنسان -خاصة الأطفال- بالاكتئاب نتيجة تقمص الشخصيات الموجودة في العالم الافتراضي مع عدم وجودها في الواقع، وأشارت إلى أن الدراسات التربوية والنفسية الحديثة أثبتت أن استخدام الصغار للألعاب الإلكترونية أكثر من 35 ساعة أسبوعياً يصيبهم بالاكتئاب بدرجات متفاوتة تختلف من إنسان لآخر حسب تركيبته النفسية.
وكشفت د. التابعي عن بعض الإيجابيات التي يمكن لبعض الفئات الاستفادة منها، مثل لعبة أنتجتها شركة «ليجو» الدنماركية للألعاب، وهي عبارة عن قطع مخصصة للأطفال ضعاف البصر بالاعتماد على طريقة «برايل» باستخدام أحرف وأرقام ورموز متوافقة تماماً مع نظام «ليجو»، وهي من الألوان نفسها للقطع التقليدية لكي يكون استخدامها متاحاً للمبصرين أيضاً، وهدف اللعبة تشجيع الأطفال والكبار ضعاف البصر على الاستفادة من وسائل جديدة لتعلّم القراءة والكتابة بـ11 لغة وفي 20 دولة كمرحلة أولى.
وأنهت د. التابعي كلامها مطالِبة بمراقبة الدول والأسر لهذه الألعاب الإلكترونية، وملاءمتها للقيم الدينية والاجتماعية التي نحرص على غرسها في نفوس الأطفال والشباب، ولا مانع من إصدار تشريعات الحماية والرقابة على هذه الألعاب الضارة، وكذلك لا بد أن يكون للإعلام الجاد دور بناء في التوعية بمخاطر هذه الألعاب، خاصة أنه يصل إلى كل الأسر؛ وذلك للحد من مخاطرها وتقنين استخدامها.
قيم خاطئة
كما يكشف د. جمال شفيق، رئيس قسم الدراسات النفسية للأطفال بمعهد الدراسات العليا للطفولة بجامعة عين شمس، جانباً خطيراً من القضية؛ حيث يحذر من احتواء العديد من الألعاب على عنف مفرط، أو ألفاظ نابية، أو ألفاظ وسلوكيات عنصرية، ويقع البعض فريسة لها حسب درجة ثقافتهم، وغالباً ما يقع غالبية الأطفال ضحية لها من خلال التقليد الأعمى، ومحاولة محاكاة نفس الألفاظ والسلوكيات لعدم قدرتهم على التمييز بين الصواب والخطأ، ولا شك أن من يتأثر بها يكون منفصلاً اجتماعياً ونفسياً عن البيئة التي يعيش فيها.
وأشار إلى أنه ليس من الغريب أن غالبية مدمني الألعاب الإلكترونية ينتهي بهم الأمر بالانعزال واللعب في غرفهم الخاصة، كما أنهم يفضلون أن يكونوا بمفردهم ويشعرون بالملل من التجمعات الاجتماعية التي تنتقد سلوكياتهم نتيجة إصابتهم باضطراب التكيف والاكتئاب والقلق والتوتر في حياتهم، وكشفت أن الدراسات الميدانية والحوادث أكدت أن فئة الأطفال والمراهقين والشباب هم الأكثر إقبالاً على هذه الألعاب الإلكترونية، رغم أن العديد من فئات المجتمع اعتادت على ممارستها وإعطائها مساحة كبيرة من وقتهم، خاصة أنها متاحة في كل مكان سواء في المنازل أم خارجها.
وأوضح أنه إذا كانت بعض هذه الألعاب الإلكترونية هدفها التسلية والترفيه، فإن بعضها يهدف إلى التنافس والصراع، وتُشير الإحصائيات إلى أن الإقبال على الألعاب الإلكترونية يتضاعف من خلال زيادة نسبة الاشتراكات والحسابات المستخدمة فيها، ورغم أن بعضها مجاني، فإن بعضها الآخر مدفوع الأجر وبمبالغ طائلة، ويكون فريستها هم مدمنو هذه الألعاب خاصة من المراهقين والأطفال.
وأنهى د. شفيق كلامه مؤكداً أن الدراسات الميدانية كشفت التأثيرات السلبية لكثير من الألعاب الإلكترونية على أخلاق وسلوكيات الأطفال والمراهقين بما يتنافى مع قيمنا الإسلامية، وعاداتنا وتقاليدينا العربية الأصيلة؛ ولدرجة وجود بعض سلوكيات عنيفة ضد النفس والآخر، ولهذا نحذر –والكلام للدكتور شفيق- من إستراتيجية خطيرة تنفذها الشركات المصممة للألعاب الإلكترونية تقوم على مبدأ «المكافأة والعقاب» لخداع العقل البشري من خلال النقاط الوهمية وشراء وبيع لهذه النقاط؛ فبعض مصممي هذه الألعاب اتخذوا منها وسيلة للتربح السريع بخدع وأساليب غير شريفة أو ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.