على مفترق طرق، يقف المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية الذي أطلقته الحكومة مؤخراً في اختبار عسير في مجتمع يرى الكثافة السكانية ضرورة حياة وعزوة ومكانة ومعونة، وبين سلطات ترى أن خفض معدلات الإنجاب، والتركيز على وعي السيدات واستقلالهن المالي، هو واجب المرحلة اقتصادياً واجتماعياً.
وبينما تأتي التصريحات الرسمية بأنها فرصة تاريخية لإنجاح المشروع في ظل وجود إرادة قوية للحكومة الحالية، يرى خبراء تحدثوا لـ”المجتمع” عن أهمية ترك الخيار للشعب المصري مع التركيز على تحسين النسل لا حصاره، ودعم الأسر لا التركيز على عددها، مع دراسة تجارب ذات الكثافة السكانية العالية التي استفادت من كثافتها.
الطاهر: مغامرة وأنصح بدراسة تجربة الصين وإندونيسيا
علامات استفهام!
من جانبها، ترى المستشارة الأسرية والاجتماعية د. منال خضر، في حديث خاص لـ”المجتمع”، أن لديها علامات استفهام على المشروع برمته، ومنها: هل أصبح إنجاب الأطفال هو القنبلة الموقوتة التي تقلق الدولة؟ وهل أصبح ميلاد أطفال جدد يهدد مستقبل مصر؟ ولماذا نعيد المشروع الذي طالما خطط له نظام ناصر، والسادات، ومبارك، للتنفيذ في عهد النظام الحالي؟
وتعرب خضر عن شكوكها من المشروع متسائلة: أي تخطيط مريب ذلك تخطط له الدولة في أنها تعطي مكافأة مالية لمن تنجب طفلين فقط وليس أكثر من ذلك؟ ومنذ متى وكان الحلم والأمل والبراءة خطراً على المجتمع، خاصة أن تجارب العالم في الاستفادة من الكثافة السكانية موجودة؟!
وتضيف أنها كانت تظن أن تقوم الدولة المصرية بعمل مكافأة للأم التي ستخرج من بيتها عالم ذرة أو حافظاً للقرآن أو مخترعاً أو فناناً مبدعاً أو رياضياً عالمياً، تشجيعاً لها على المساهمة في تأسيس جيل جديد يشكل درع مصر الذي يحميها بعلمه وفنه وإبداعه.
كما تضيف خضر أنها كانت تظن أن تقوم الدولة بدعم الآباء برفع مستوى ثقافتهم الأسرية، ومساعدتهم على معرفة الدور الذي يجب أن يقوموا به تجاه أولادهم من دعم وحب وتخطيط سليم، أو تقوم بتدشين مشروع لتبني أبناء الفقراء والمتفلتين من الدراسة في مراحل التعليم الأساسي من أجل تعليمهم وتربيتهم وتغذيتهم بالشكل الصحيح حتى ننمي في نفوسهم حب الوطن والانتماء إليه.
وترفض خضر التدخل في مسألة الإنجاب قائلة: أنا من خلال عملي كمستشار أسري، أرى أن نترك الحرية للأسر لتحديد عدد الأطفال الذي يناسبهم ولا تتدخل الدولة فيه أبداً، فكل أسرة تنظر إلى الأطفال بمنظور مختلف، فكم من أبناء وأمهات حددوا أن ينجبوا طفلاً واحداً، ومات هذا الطفل في عمر الشباب، وندموا على عدم الإنجاب، وتمنوا لو أن عندهم عشرة من الأطفال، وكم من آباء أنجبوا عشرة من الأولاد ولم يقومون برعايتهم وتربيتهم التربية الصحيحة وقالوا: يا ليتنا أنجبنا طفلاً واحداً أو طفلين.
خضر: علامات استفهام وريبة وأتمنى ترك الحرية للأسر
وتحذر المستشارة الأسرية والاجتماعية من توابع مثل تلك المشروعات على مستقبل مصر، موضحة أن كل الدول التي قامت بتحديد النسل ندمت لأنها أصبحت بعد 50 سنة دولاً من العجائز وندر فيها الشباب وهرمت، بينما هناك دول أخرى لديها تعداد سكاني رهيب صنعت من الأطفال الحلم الذي يغزو العالم مثل الصين وإندونيسيا.
وتؤكد خضر أن دور الدولة ليس الدفع إلى تحديد النسل، ولكن الدفع إلى تحسين النسل والعناية به عناية تليق بدولة عريقة التاريخ مثل مصر، أما عن التنمية الاقتصادية، فقد كفل الله للعباد والبلاد الغنى إذا أحسنوا الصناعة والإنتاج واستغلال الموارد، فقد قال تعالى: (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) (الإسراء: 31)، فالرزق مكفول لصناعة الأبناء والأجيال والارتقاء بالأوطان.
سلاح ذو حدين
ويرى الكاتب الصحفي والباحث الاقتصادي إبراهيم الطاهر، في تصريحات خاصة لـ”المجتمع”، أن تدشين مشروعات قومية تعتمد على حوافز اقتصادية تخاطب الأسر المصرية قد يؤتي ثماره وقد لا يؤتي، في ظل حرص المجتمع المصري على مفاهيم مستقرة مجتمعياً حول تثمين الإنجاب والفرحة بكثرة الأولاد.
ويشير إلى أن الحوافز الاقتصادية للحد من الإنجاب سلاح ذو حدين، فهي تشكل عبئاً على موازنة الدولة خاصة إذا لم تحقق المرجو منها، وقد تدفع إلى إنشاء حوافز مالية أخرى في وقت لاحق إذا جاء الهدف بالضرر وقل المعدل الطبيعي للإنجاب ما يتطلب تحفيزه وهو ما حدث في الصين.
ويوضح الطاهر أن الصين بعدما أوقفت سياسة الطفل الواحد قبل سنوات عانت من الانخفاض في معدل الإنجاب، وأصبحت الدعاية الحكومية تكثف الدعوات للإنجاب، مع مناقشة إجراءات تتنوع بين تمديد إجازة الأمومة والتشجيع على إنجاب طفل ثان من خلال تقديم حوافز نقدية مباشرة أو إعفاءات ضريبية لبعض الوقت.
ويلفت الانتباه إلى جدلية مستمرة في الأوساط الاقتصادية بين الاستفادة من الكثافة السكانية في التنمية الاقتصادية في مقابل التشاؤم من تلك الكثافة والحديث عن أضرارها على التنمية، موضحاً أنه من أنصار دراسة كل وطن على حدة لظروفه، لكن دون نشر ثقافة سلبية تقوض دور الأسر في التنمية الاقتصادية.
ويؤكد الطاهر أن إندونيسيا استطاعت استغلال الزيادة السكانية لديها في تحقيق معدلات تنمية مرتفعة خلال بضعة عقود من الزمن، إذ يبلغ عدد سكان إندونيسيا نحو 255 مليون نسمة، لكنها تعد أكبر اقتصاد ناشئ في جنوب شرقي آسيا، وأحد أعضاء نادي العشرين الذي يضم أكبر 20 اقتصاداً في العالم.
التقارير الرسمية: فرصة تاريخية لضبط الإنجاب ودعم السيدات
محاولات متكررة
وحاولت السلطات المصرية في أكثر من عهد بملف تنظيم الأسرة دون جدوى تذكر.
وبحسب تقارير، فقد شهد العام 1965 أول المحاولات في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، عندما تم إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة.
وتكررت المحاولات في عهدي الرئيسين الراحلين أنور السادات، وحسني مبارك، وتصدرت شعارات تنظيم الأسرة وسائل الإعلام وقتها.
وعلى مدار أكثر من 55 عاماً، لم تفلح الحكومات المصرية المتعاقبة في غلق الملف في ظل ممانعة شعبية مستمرة.
ودشنت الحكومة الحالية مشروعاً جديداً في هذا الإطار بوسائل جديدة، وتأمل في النجاح وفق تصريحات رسمية.
وبحسب الإحصائيات الرسمية، فإن عدد السكان في عام 2020 وصل إلى 100 مليون نسمة في الداخل، وبلغ العدد في عام 2021 نحو 102 مليون نسمة، فيما تخطى عدد سكان مصر الآن 103 ملايين نسمة.
وتحتل مصر الترتيب الأول بين الدول العربية، والثالث بين الدول الأفريقية، والرابع عشر بين دول العالم من حيث عدد السكان.
وكشفت دراسة حديثة للمركز المصري للفكر والدراسات غير حكومي، عن أن مصر تسجل مولودًا كل 15 ثانية تقريبًا، ما يعني 2.5 مليون مولود سنويًا، وسط توقعات بوصول عدد سكان مصر عام 2030 لما يقرب من 120 مليون نسمة.
المشروع الحالي
وبحسب الوثائق الرسمية، فإن المشروع الحالي مستمر في مرحلته الأولى حتى العام المقبل، ويستهدف في البداية نحو 1520 قرية في 20 محافظة، بشمال مصر وجنوبها.
ويركز المشروع على السيدات من 18 حتى 40 سنة.
ويتضمن محاور تشريعية ورقمية وخدمية، ويهدف في محوره الاقتصادي إلى وجود تمكين اقتصادي لهؤلاء السيدات يسهل لهم العمل والاستقلالية المالية، وذلك من خلال تنفيذ مشروعات وتدريبات للسيدات.
ويستخدم المشروع الحالي سلاحاً لم تستخدمه الدولة المصرية قبل ذلك وهو سلاح الحوافز الإيجابية، حيث ستحصل الأسر الملتزمة بالمشروع على حوافز ومكافآت مالية.