من يرى مشهد المتطرفين اليهود في المسجد الأقصى خلال الأيام الماضية وفي شهر له خصوصيته الدينية عند المسلمين (رمضان) وأشهر من أن ينساها أحد على كوكب الأرض، سيكون عليه أن يتذكر مشهد المارشال (ريموند هنري اللنبي ت 1936م) الشهير باللورد اللنبي والذي دخل القدس في 6 ديسمبر 1917م بعد معركة حامية مع القوات العثمانية المتمركزة فيها.
يومها أصر على أن يركب حمار (كما فعل السيد المسيح حين دخل القدس راكبًا على آتان /حمار) ويذهب إلى كنيسة القيامة ليقول جملته الشهيرة: اليوم انتهت الحروب الصليبية.
الغرب مهووس بالتواريخ المتوافقة ذات الرسائل والدلالات الناطقة، تذكرون أن مؤتمر مدريد 1991 م للسلام عقد في مدريد تحديدا بمناسبة مرور خمسمائة عام بالتمام والكمال على سقوط غرناطة 1491م.
الرسالة قالت وسط كؤوس الأنخاب وابتسامات الأصدقاء والأحباب: لن تأخذوا من “إسرائيل” إلا ما أخذتموه من غرناطة!!
(الفاروق عمر) رضى الله عنه دخل القدس عام 636م ليتسلم مفاتيحها من البطريرك المحترم (صفرونيوس) الذي رفض تسليم مفاتيحها للقائد العسكري الذي فتحها (أبو عبيدة بن الجراح) وأصر على أن يأتي الفاروق بنفسه لتسلمها.. والذي فعل ما أراده البطريرك…!! احتراماً لمطلبه.. ما أعظم الرجال في نبلهم وشهامتهم.. الأعظم من توصيل أبوعبيدة رسالة البطريرك لعمر، هو أن عمر نفسه استجاب لطلب البطريرك وذهب شخصياً لتسلم مفاتيح المدينة.
لم تكن أبداً الحضارة الإسلامية حضارة سيف ودم.. كانت حضارة القيمة والمعنى والإنسان في أكمل كمالاته نبلاً وأخلاقاً.. سيقول لنا التاريخ في كل أوقاته أن جميع قواعد الإسلام كانت دائماً تنطلق من ينبوع الفطرة الإنسانية. *
****
الحاصل أنه في سنة (1099 م) استولى الصليبيون على بوابة الأرض الى السماء (القدس) وقاموا بمذبحة مروعة استشهد فيها أكثر من 70 ألف من المسلمين داخل ساحات المسجد الأقصى.
وبعد أكثر من ثمانين عام احتلال وفي 1187 م سيحررها القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي (ت1193م)
*****
في البدء دائما تكون مصر.. هكذا يقول التاريخ.. بتولي صلاح الدين الوزارة في مصر بعد خلافات شاور/ ضرغام الشهيرة.. سيتبين له أنه لابد من عودة الكنانة إلى حضن الأمة (الخلافة العباسية) لأن الحرب القائمة ليست حرباً إقليميه محدودة.. إنها حرب الأمة كلها ولكي يتم ذلك لابد من اتحاد الأمراء والعلماء.. مربط فؤاد الأمة الذي سيجتمع عليه أمرها ليلتئم عليه شملها.
فكان ما لابد منه.. إلغاء الخلافة الفاطمية التي قامت ودامت 260 عاماً (909/1171م).. ثم ترتيب البيت المصري من الداخل.. سنرى أن كل ذلك تم بيسر وسلاسة إن عبرت عن شيء فإنما كانت تعبر عن الطبيعة المصرية الكريمة في تعاملها مع الانتقالات الحرجة، وتعبر أيضاً عن فطنه غير محدودة لصلاح الدين.
الجدية الصادقة كانت واضحة في رسالة صلاح الدين إلى المصريين.. فكان وكانوا وكانت حطين.. ثم الثمرة الكبرى (القدس) التي سلمها قائدها (باليان) لصلاح الدين دون قطره دم واحدة، وردت الكرامة إلى مستحقيها.. وأقام فيها المسلمون والمسيحيون، وعاد إليها اليهود بعد أن كانت محرمة عليهم وقت احتلالها طوال الثمانين عاماً.
سيأتي عام 1261 م وسيقود الملك الأشرف صلاح الدين خليل قلاوون (ت 1293م) آخر المعارك الصليبية ليمحو كل الوجود الصليبي الذي استمر أكثر من مائتي عام (1096-1272م).
ثم لا يلبث التاريخ القديم أن يتكرر بتفصيل جديد.. ليأتي اللورد اللنبي ويقوم بالمشهد الذي ذكرناه أولاً.. ولتبدأ المرحلة الأخس والأحقر في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب والتي هي خيطاً موصولاً متصلاً بألف صلة بما قام به (إيتمار بن غفير) الأربعاء 20 أبريل الماضي عند باب العمود بكل تأمين وأريحية وغدر وخسة من الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” التي منعت بعدها دخوله.. لتكتسب الصورة وإخراجها أخيب زواياها (الحياد الغادر).
*********
أول دخول لليهود إلى القدس كان زمن داوود عليه السلام عام 1000 م قبل الميلاد (ق. م) وسمى المدينة باسمه وبنى فيها الحصون الكبيرة ثم خلفه ابنه سليمان عليه السلام والذي بنى فيها هيكله المعروف باسمه واستمر حكم اليهود للمدينة 300 عام كما تقول الروايات التاريخية-
تعرضت القدس خلالها لكثير من الغزوات وانتشر فيها وبعدها الفساد والفوضى وعبادة الأوثان.. ثم احتلها الفرس عام 586 قبل الميلاد (ق.م) والذين دمروها تدميراً وأحرقوا الهيكل وقضوا على وجود اليهود فيها وسبوهم إلى بابل (نبوخذ نصر ت 560 ق.م) إلى أن سمح لهم الملك قورش عام 538 ق.م بالعودة إليها.
عام 332 ق.م وصلها الإسكندر المقدونى (323 ق.م) عبر معاركه التليدة في الشرق، وبعد وفاته خضعت لحكم البطالمة في مصر الذي استمر 300 سنة.. ثم السلوقيين في سوريا الذي استمر حكمهم تقريباً نفس مدة حكم البطالمة.. والذين دمروا الهيكل عام 165 ق.م. وأرغموا اليهود على اعتناق الوثنية.
وفي عام 63 ق.م خضعت المدينة للإمبراطورية الرومانية ضمن سيطرتها على كل ميراث قادة الإسكندر السابقين (البطالمة والسلوقيين) خلال هذه الفترة كانت بعثة السيد المسيح عليه السلام، ودخوله إلي القدس ليجمع خراف بنى إسرائيل على الصراط المستقيم من جديد لكنهم رفضوه وكفروا به وحاربوه.. وتوالت القرون تلو القرون إلى أن فتحها الفاروق عام 636م كما ذكرنا أولاً.
ما قصدت إليه من هذا الاستطراد التاريخي السريع هو إظهار كم الأكاذيب والخداعات في رواية (أرض الميعاد) وأرض أجدادهم.. والتي ما هي إلا تكرارات لغوية ممجوجة من الكذب واللغو الزائف بالغ السخف والهزل. والجميع يعلم ماذا يعنى وإلى ما يهدف وجود دولة تنتمي بكل أشكال (القص واللصق) التاريخي العبثي إلى الغرب الاستعماري.
**********
حين دخل اليهود عام 1948م توقفت القوات اليهودية على بعد أمتار قليلة من أسوار القدس القديمة.. وبعد قيام الدولة اتخذت من القدس الغربية.. مقراً للعديد من المؤسسات السياسية (الكنيست) واستمر هذا الوضع حتى هزيمة (الكل يوم) 5 يونيو 1967م، عندما وقعت القدس بـ(أكملها) تحت القبضة اليهودية ورأينا موشى ديان (ت 1981م) يدخل المدينة دخول المظفرين.. وسرعان ما قاموا بعدها بإجراءاتهم نحو الضم والتهويد، وفي 27 يونيو 1967م، قرر الكنيست ضم القدس إلى “إسرائيل”.. كما حٌلت المؤسسات العربية الموجودة فيها وبدأت حملة استيطانية واسعة لتطويق المدينة وخلق واقع ديموغرافي جديد.
ستظل فلسطين.. وستظل القدس (رمزاً للصراع بين الشرق والغرب).. الشرق بكل مكوناته وجذوره الحضارية والمعرفية.. والغرب بكل مكوناته وأيضاً جذوره الحضارية والمعرفية.
نحن فقط أمام خدعة تاريخية سخيفة استندت إلى أكذوبة تاريخية أكثر سخفاَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) طبيب وكاتب مصري ومدير المركز الثقافي باتحاد الأطباء العرب.