سؤال قد يبدو غريباً في البلد الأم للعلمانية على الطريقة الفرنسية التي تقوم على الفصل التام بين الدين والدولة، ولكن المتأمل في نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة وما أفرزته من مشهد سياسي غير مسبوق في التاريخ الحديث لهذا البلد، يدرك مدى تأثير التوظيف السياسي للملف الإسلامي وخاصة ما يتعلق بمظاهر الصحوة الإسلامية -كمعطى جديد لم يألفه المجتمع الفرنسي- في إحداث تحولات جوهرية في الخارطة السياسية، على مستوى المؤسسة التشريعية أساساً.
من الهجرة إلى المواطنة
وحتى نفهم ما حصل، لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت فرنسا وأوروبا عموماً من الحرب منهكة في حالة يُرثى لها تعيش على “كرامات” مشروع مارشال الأمريكي، وكانت عملية إعادة الإعمار الهاجس الأول للجهات الرسمية التي أسهمت في استقدام أفواج من العمالة من المستعمرات القديمة لتعويض النقص الفادح في عدد الرجال الذين ماتوا في الحرب حتى إن النساء اضطررن للخروج إلى العمل.
وكان وصول أفواج المهاجرين الوافدين بعد الحرب العالمية الثانية معطى جديداً أحدث تحولات كبرى في المجتمع الفرنسي، في البداية كان الأب يأتي وحده للعمل ولا يرى أهله إلا في الإجازة الكبرى، وتمكنت الحركة النقابية ذات التوجهات اليسارية عبر نضالات طويلة من تحقيق مطلب العمال وحقهم في التجمع العائلي، وقدِمت النساء والأطفال إلى فرنسا والتحقوا بعائل الأسرة وتحولت الهجرة تدريجياً من الهجرة المؤقتة إلى المواطنة، ومن مقتضيات المواطنة المساواة في الحقوق والواجبات والمصير المشترك.
وكان في حسبان شريحة من النخبة الفكرية والطبقة السياسية الفرنسية أن يأخذ مسار تطور الوجود الإسلامي في فرنسا – حيث أكبر كثافة للمسلمين بأوروبا الغربية- التطبع بمنحى التغريب والتوجه العلماني من خلال عملية صهر مدروسة وطويلة المدى لأجيال المسلمين في المدارس الفرنسية، ولئن تحقق الهدف في مرحلة أولى، إلا أنه لم يكن في حسبان أنصار العلمانية داخل الطبقة السياسية وخارجها أن موجة من الصحوة الإسلامية منذ السبعينيات ستفرز جيلاً جديداً متمسكاً بهويته الدينية الإسلامية ويطالب باحترام الخصوصية الدينية في صفوف الأقلية المسلمة ويحتج على كل مظاهر تهميش هذه الأخيرة واستهداف هويتها فيما يُعرف بـ”الإسلاموفوبيا”.
بالتزامن مع تصاعد حركة الوعي لدى المسلمين، ظهرت حركات وأحزاب تنتمي إلى ما يُعرف باليمين المتطرف أو أقصى اليمين التي وجدت ضالتها لكسب الأنصار وزيادة شعبيتها، في البداية كانت مواقفها ذات طابع عنصري (شوفيني)، تتمحور حول التخويف من “زحف” عربي أفريقي على أوروبا يهدد بانقراض العنصر الأبيض، قوبلت هذه الحركات برد فعل قوي من المنظمات الحقوقية وغيرها من أصحاب الضمائر الحية؛ الأمر الذي يفسر عملية تطويقها ومحاصرتها سياسياً من أجل عدم اقترابها من دائرة الحكم.
الملف الإسلامي محور رئيس في الصراع السياسي
بيد أنه حصلت، منذ نهاية السبعينيات، أحداث ومعطيات جديدة على المستوى الدولي كانت لها تداعياتها على المستوى المحلي.
والأمثلة هنا عديدة، ومن أهمها قيام دولة إيران الشيعية، ودحر الجيش الأحمر في أفغانستان، وانتفاضة الشعب الفلسطيني، إلا أن الأحداث الكبرى التي كان لها وقع مؤثر في الغرب عموماً وفي فرنسا خصوصاً تتمثل في أحداث 11 سبتمبر، و”العشرية السوداء” في الجزائر أساساً، ذلك أن الجالية الجزائرية هي المكون الرئيس للأقلية المسلمة في فرنسا، وما حصل في الضفة الجنوبية لفرنسا كانت له تداعيات مباشرة على الرأي العام الفرنسي خاصة بعد سلسلة من العمليات الإرهابية في فرنسا.
في ظل هذا المعطى الجديد، تحول الملف الإسلامي خلال العشريات الأخيرة إلى محور رئيس في الصراع السياسي، ومادة دسمة في الحملات الانتخابية يوظفه كل طرف حسب ما يخدم مصالحه.
في البداية، اعتُبرت هذه الصحوة الإسلامية خاصة في صفوف الشباب موجة عابرة، ولكن كلما تقدم الزمن ترسّخت حقيقة وهي أن هذه الصحوة نقلة نوعية في صفوف الأقلية المسلمة على غرار ما يحدث في بقية العالم الإسلامي، وما يلفت الانتباه البروز غير المسبوق لمظاهر التدين الإسلامي: انتشار الحجاب خاصة في صفوف الفتيات الطالبات وبناء المساجد (أكثر من 3 آلاف مسجد)، وإقامة المدارس الإسلامية وتمسك الشباب بصيام رمضان وبيع اللحم الحلال وأضاحي العيد.. علاوة على اعتناق عدد من أبناء الأوروبيين للإسلام.
شماعة الحجاب وتداعيات قانون حظر “الرموز البارزة”
ومن بين هذه المظاهر تم التركيز على مسألة الحجاب، منذ أواخر الثمانينيات فيما يعرف بقضية مدينة كراي ضواحي باريس التي انطلقت في أكتوبر 1989 بعد طرد ليلى، وفاطمة، وسميرة، وهن 3 طالبات في المدارس الإعدادية لرفضهن خلع الحجاب في الفصل الدراسي باسم احترام دينهن، ومنذ ذلك الوقت (33 عاماً)، لم يتوقف الجدل بشأن الحجاب، بل احتدم الجدل جراء الاستفزازات الإعلامية، “هل يجب أن ندعو الإسلام للعودة إلى المدرسة؟”، كان هذا هو السؤال الذي طرحته الأسبوعية “لوبوان” في ذلك الوقت، بعد أسابيع قليلة، في 27 نوفمبر 1989، صدر حكم عن مجلس الدولة (أعلى هيئة دستورية) ينص على أن ارتداء الحجاب الإسلامي لا يتعارض مع مبدأ العلمانية.
وفي عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك (1995 – 2007)، أخذ موضوع الحجاب منحى تصاعدياً وظفته كل الأطراف السياسية والحزبية والإعلامية والفكرية ليصبح القضية الأولى في فرنسا، وتندرج هذه الحملة في سياق تهيئة الرأي العام لمنع الحجاب في المدارس العمومية.
ففي عام 2003، قرر الرئيس شيراك إنشاء لجنة لبحث تطبيق مبدأ العلمانية في الجمهورية تعرف باسم لجنة ستازي، وعملاً بتوصيات اللجنة، دعا شيراك لصياغة مشروع قانون يحظر الرموز الدينية، وهو ما تم بالفعل عام 2004 حيث أصدر البرلمان قانوناً يمنع “الرموز البارزة” في المدارس العامة الفرنسية باسم الحفاظ على العلمانية، والمقصود بالرموز البارزة الحجاب المرأة المسلمة أساساً، ودخل القانون حيز التنفيذ في المدارس الفرنسية، في مايو 2019، بعد الجدل الذي أثارته الأمهات المحجبات أثناء مصاحبتهن لطلبة المدارس أثناء الخرجات المدرسية، اعتمد مجلس الشيوخ تعديلاً على قانون “مدرسة الثقة” الذي وضعه بلانكار، وزير التربية آنذاك، بهدف حظر إبراز الرموز الدينية.
هكذا أصبح موضوع الحجاب الشماعة التي يوظفها كل طرف سياسي لإبراز التزامه ودفاعه عن العلمانية كأحد أسس الجمهورية الفرنسية وما ينجر عنه من توترات كبرى، حيث انطلقت الآلة العلمانية لتشن حرباً على ما اعتبرته نوعاً من التمرد على العرف أو القانون العلماني وفرضاً لواقع جديد يكون فيه للدين موقع في المجتمع، وهو ما ترفضه العقلية السياسية الفرنسية.
العلمانية تتحول تدريجياً إلى ضرب من الدين
واستغلت شريحة من دعاة العلمانية هذه الأجواء لتبتعد تدريجياً عن الأصل الذي يقوم عليه هذا مبدأ العلمانية في فرنسا كما جاء به قانون 1905؛ وهو حياد الدولة في مسألة الدين وتعاملها بندية مع كل الأديان، وتحول العلمانية إلى نوع من الدين الذي يوجه سلوك الناس في حياتهم اليومية ويتدخل في حرياتهم الدينية، وذلك كلما قويت المطالب باحترام الخصوصية الدينية في صفوف الأقلية المسلمة أساساً.
كما أعطى تطور الأحداث زخماً كبيراً للأحزاب العنصرية (الشوفينية) من خلال توظيف الصحوة الدينية الإسلامية من أجل التخويف هذه المرة من “المارد الإسلامي”، مستغلة بعض مظاهر الانحراف السلوكية (جرائم، تشدد، إرهاب) لإلصاقها بالإسلام والمسلمين، وفي سياق المزايدات السياسية، انبرت هذه الأحزاب للدفاع على الهوية المسيحية التي طالما اعتبرها مهدَّدة بسبب ما تسميه بـ”الأسلمة التدريجية للمجتمعات الأوروبية الغربية” أمام البروز غير المسبوق وبشكل لافت لمظاهر التدين الإسلامي.
وأصبح من اليسير على العنصريين والمتطرفين استهداف المسلمين وتوصيفهم بـ”الطابور الخامس”، وتأجيج الرأي العام ضدهم، وبالتالي قويت شوكة الأحزاب العنصرية وتضاعفت شعبيتها وتمكنت من طرق باب الحكم في العديد من البلاد الأوروبية، ونجح حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في فرنسا في منافسة الأحزاب التقليدية في عدة مناسبات انتخابية.
مزايدات سياسية لأغراض حزبية
في هذا السياق، يمكن فهم التحول الجذري الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة الرئاسية في أبريل الماضي، ثم التشريعية في يونيو الماضي، فقد كان الصراع بين أطراف ثلاثة رئيسة، أولها الجهة الرسمية الحاكمة متمثلة في الرئيس ماكرون وكتلته، ثم طرفان في المعارضة من أقصى اليمين ومن أقصى اليسار.
فقد نجحت الشعبوية في كسب نسبة من الرأي العام على خلفية توظيف الملف الإسلامي، بل إن المزايدات بين تيارات أقصى اليمين تضاعفت بعد ظهور تيار أكثر تطرفاً وهو حزب “الاسترداد” بزعامة زمّور الذي رشح نفسه للرئاسة إلى جانب لوبان، وهو لا يتورع عن التهجم على الإسلام وله أنصاره، إلى حدّ تخوف نسبة من الرأي العام من إدخال البلد في توترات وحرب أهلية بسبب خطاب الكراهية والعنصرية لليمين المتطرف ضد المهاجرين وكذلك –وهذا هو الجديد مصدر التخوف- ضد المكوّن الإسلامي داخل المجتمع.
وأمام زحف أقصى اليمين المتصاعد وتوظيفه للملف الإسلامي، سعى الرئيس ماكرون بكل جهوده إلى كسب أصوات الناخبين المتعاطفين مع أطروحات اليمين المتطرف، فانطلق في حملة ضد ما أسماه بـ”الانفصالية” وما صحبه من إجراءات تضييق أمنية وإدارية على المكوّن الإسلامي وخاصة الجمعيات والمساجد، وقد أحدثت هذه السياسة امتعاضاً شديداً لدى المسلمين ولدى شخصيات وأطراف حزبية وحقوقية، ولم يحسب ماكرون حساباً للوعي السياسي المتصاعد لدى الفئة الشبابية من المسلمين.
الرد على سياسة محاربة “الانفصالية ” للرئيس ماكرون
بينما استطاع ميلنشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري، توظيف الشعور بالغبن لدى المسلمين ليتحول إلى محام يدافع عن حقوقهم بشراسة، وهو يدرك أن كل موقف إعلامي سيُكسبه أصواتاً عديدة، وهو ما تم بالفعل حيث صوّت له المسلمون بنسبة 70% في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، محدثاً مفاجأة في الجولة الأولى للانتخابات بحصوله على المرتبة الثالثة بنسبة عالية 22%.
كما استطاع ميلنشون تعزيز موقعه السياسي عن طريق تكوين كتلة يسارية “الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد” ليحصد 131 مقعداً من أصل 577 في الانتخابات التشريعية، وليكون أكبر كتلة معارضة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، ولم يكن ليحصل على هذه النسبة بدون دعم المسلمين ولو جزئياً.
في المقابل، لم تكتف مارين لوبان بمنافسة ماكرون في الانتخابية الرئاسية، حيث انتهت المعركة الانتخابية بالحسم لفائدة الرئيس ماكرون الذي انتخب لولاية خماسية ثانية بنسبة 58.55% من الأصوات مقابل 41.45% لمنافسته اليمينية المتطرفة لوبان، بل إن هذه الأخيرة أحدثت زلزالاً سياسياً حقيقياً؛ حيث تحول حزبها “التجمع الوطني” إلى أقوى حزب في البرلمان بفوزه بـ89 مقعداً من أصل 577 في الانتخابات التشريعية الأخيرة بفرنسا، وحتى إن فاز اليسار بأكثر المقاعد في صفوف المعارضة، فهو مجموع كتلة من الأحزاب اليسارية، بينما حزب التجمع الوطني الممثل لأقصى اليمين تمكن وحده من حصد حوالي 90 مقعداً في سابقة منذ أكثر من 35 عاماً، بل فاز بمنصب نيابة رئاسة البرلمان، ولم يكن لهذا الحزب أن يحصل على كل هذا الزخم الانتخابي والشعبي لولا مواقفه المتسمة بالشعبوية خاصة ما يتعلق بالملف الإسلامي والتخويف من تهديد المسلمين للهوية المسيحية للمجتمع الفرنسي، وهو الملف البارز في خطاب لوبان وحزبها.
الفرصة متاحة لبناء علاقة ثقة متبادلة
وفي الخلاصة، يمكن القول: إن أحزاب المعارضة من أقصى اليمين ومن اليسار استفادت من توظيف الملف الإسلامي كل بطريقته لتحقيق مصالح حزبية والتموقع في الخارطة السياسية داخل المؤسسة التشريعية أساساً حيث تطبخ القوانين الموجهة للسياسة العامة.
أما الخاسر الأكبر من عملية توظيف مظاهر التدين والصحوة الإسلامية هو الحزب الحاكم الذي فقد الأغلبية، وبالتالي أصبح الرئيس ماكرون لا يملك الأغلبية للحكم، بالرغم من فوزه بمنصب الرئاسة لدورة ثانية، ذلك أنه راهن على الحس الشعبي الرافض في نسبة كبرى منه لخطاب اليمين المتطرف، وهو ما جعله يفوز مرتين بالمنصب الأعلى في سدة الحكم، ولكنه تراجع هذه المرة في الشعبية وخسر نسبة من ثقة المسلمين بتأكيده على مسألة الانفصالية وتداعياتها السلبية على المساجد والجمعيات والمؤسسات الإسلامية.
والآن وبعد أن اتضحت صورة المشهد السياسي، يمتلك الرئيس الفرنسي الفرصة لاسترجاع ثقته مع المسلمين وتخفيف حدة التوتر الناتجة عن سياسة “الانفصالية”، وفتح صفحة جديدة في العلاقة القائمة على الاحترام المتبادل، بشرط تغليب منطق العقل والحكمة، فهو في بداية دورة جديدة خماسية، وهي الدورة الثانية والأخيرة بالنسبة لمنصب الرئاسة بحسب الدستور، وهو ما يعني غياب ضغط منطق المعادلات والحسابات السياسية لكسب أصوات انتخابية، وسارت العادة على أن الرئيس المنتهية ولايته يسعى إلى ترك بصمة في التاريخ السياسي لبلده، وهذا المعطى المهم يعدّ فرصة من هذا الجانب لوضع أسس علاقة تقوم على الثقة المتبادلة بين الدولة والمكوّن الإسلامي في فرنسا الوازن كثافة وفي طريقه إلى التأثير النوعي تدريجياً بحكم حركة الوعي المتنامية في صفوفه وخاصة في صفوف الأجيال الصاعدة.