لم تكن العبادات الإسلامية مجرد طقوس يؤديها المسلم ساعة من الزمن أو مركزًا في المكان ثم يتولى المسلمون لشأنهم – على الطريقة العلمانية- فيفصلون بين تلك العبادات وبين مسارات حياتهم. كذلك فإن الطريقة الإسلامية في العبادة تختلف عما تم ابتداعه من البشر –سواء بدع الشرائع السماوية أم المذاهب الأرضية- من عبادات تتعلق برياضات نفسية أو جهد ذاتي مبذول في الخفاء أو ما يسمى بالتبتل.
لكن الطريقة الإسلامية أرست في منهجيتها للعبادات والتعبد، أن تنعكس حالة العابد وتظهر في نشاطه الاجتماعي والسلوكي الإنساني، وتقريبًا فإن كل العبادات والطقوس الإسلامية تربط بين شبكة العلاقات الاجتماعية، حتى الصوم الذي هو خصيصة بين العبد وربه –في النية والفعل- جعل الله حسن الأخلاق مع الناس دلالة عليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم”[1]. وعلى هذا جاءت الصلاة لتنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر الاجتماعي والأخلاقي والعقدي، والزكاة يرتبط طرفها بالله (الامتثال والخضوع) والطرف الثاني بالناس (الأداء والفعل أو الاستجابة). هذا فضلًا على اعتبار الإسلام مفهوم العبادة أوسع من مجرد الطقوس، إلى اعتبار كل سلوك يقع في دائرة (الخير) للذات أو الناس هو عبادة )قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ( (الأنعام: 162).
مقاصد الحج وأبعاده
الحج ضمن العبادات التي تعكس استجابة المسلم لأمر الله تعالى والخضوع له، وإن ارتبط من حيث التكليف بالاستطاعة المادية (المالية والبدنية)، كما ارتبط أيضا بجوانب التوقيت (الزمان) والمكان (مناسك الحج ومشاعره) إلا أن يظل ركنًا رئيسًا في الإسلام يؤديه ملايين المسلمين كل عام، بحيث لا ينقطع استجابة المسلمين عامة عن أداء هذا الركن العبادي في واقع المسلمين.
وللحج مقاصد عديدة، تتعدد بمجالات التأثير الذي يتصل بها الحج من النفس إلى خارج النفس، ومن دخل الإنسان إلى خارجه، ومن محيط الإنسان القريب إلى محيطه البعيد، ومن المجتمع المحلي للإنسان إلى الأمة، ومن الأمة إلى الناس جميعًا، حاولنا في هذه الخواطر استقراء بعض مقاصد الحج القريبة والبعيدة نقدمها للقارئ الكريم غير الحاج وللحاج الذي يمتلئ قلبه بفيوضات تتجاوز هذه الخواطر بالتأكيد.
مفردات الحج
فيما يتعلق بمقاصد فريضة الحج، يمكن أن نقف على بعض المفردات والمفاهيم المهمة في هذا الشأن التي تضمنتها آيات الحج في القرآن الكريم، وهذه المفردات هي: البيت الحرام، قيامًا للناس [المائدة: ٩٧]، فج عميق [الحج: ٢٧]، لا رفث، ولا فسوق، لا جدال، خير الزاد، التقوى [البقرة:197]، الشهر الحرام، الهدي، القلائد، [المائدة: ٢، 97]، طهر بيتي، الطائفين، القائمين، الركع، السجود، فج عميق، منافع، ذكر الله، رجالًا، ركوبًا، الإطعام، البائس الفقير [الحج: 26-28]، شعائر الله، البيت العتيق [الحج:32-33].
في ضوء هذه المفردات وما تتضمنه من مفاهيم يمكن أن نقف على أهم مقاصد الحج فيما يلي:
- مقصد إلى داخل الذات:
ويتضمن:
– التوحيد الخالص.
– الطهارة الذاتية القلبية.
– التلبية القلبية قبل التلبية الجسدية.
– تعظيم الشعيرة.
– تعظيم حرمات الله.
– الاجتناب القلبي لكل أنواع «الرجس».
– تقوى القلوب.
– وجل القلب.
– الصبر البدني والوجداني.
– الإنفاق.
– الشكر.
– التقوى.
-الإخبات.
– التعظيم لجلال الله.
– معرفة الله حق معرفته.
– ذكر الله.
2. مقصد إلى خارج الذات (المحرمات):
غاية هذا المقصد هي التعرية من مظاهر التعلق الأرضي، ويبدو في المظاهر التالية:
– النهي عن استخدام الطِّيب واستنشاق العطر.
– النهي عن لبس المخيط وما فيه من تكلف وتمايز.
– النهي عن إيذاء كل أشكال الكائنات الحية وغير الحية.
– النهي عن قطع الأشجار أو اقتلاع النباتات.
– النهي عن صيد البر أو تناوله.
– اجتناب كل حِل الزوجية والتواصل الحميم.
– لا تفسق – لا ترفث – لا تلعن – لا تبغض.
– لا تغطِّ رأسكَ (للرجال) – لا تغطي وجهكِ (للنساء).
– التجرد من استخدام الزينة وأدوتها.
– التهيؤ للقاء الله مثل يوم المحشر.
– تدريب البدن على ممارسة التقوى فعلًا.
3. مقصد إلى المجتمع:
يظهر هذا المقصد في تحقق ما يلي:
– التطهر الاجتماعي من المظالم.
– الإيفاء الاجتماعي من الديون.
– براءة الذمة الاجتماعية من كل ما يحتمل إثمًا.
– مساواة التلبية مع اختلاف شكل الملبي [رجالًا/ ضامر] [الحج: 27].
– الإطعام (أطعموا البائس الفقير) [الحج: 28].
– الإنفاق (ومما رزقناهم ينفقون) [الحج: 35].
4. مقصد إلى الله تعالى:
ومن أهم معالم هذا المقصد ما يلي:
– الامتثال بالغيب.
- – الإيفاء بوعد الله تعالى )وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ([الحج: 27].
- التوحيد الخاص) لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا( [الحج: 26]..
- ذكر الله تعالى )فَاذْكُرُوا اللَّهَ ( [البقرة: 198].
5. مقصد إلى الأمة،
ويتمثل في:
– رمزية الأمة في «الحج» وتجسيدها الواقعي والعملي لمفهوم الأمة الإسلامية التي تختص بهذا المنسك في هذا المكان وفي هذا الوقت ) لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ( [الحج: 67].
– وحدة العالمَين (الغيب والشهود) في منسك الحج )لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ( [الحج: 28].
– وحدة الأمة، وتتجسد في: وحدة الحركة، وحدة السعي، وحدة الطواف، وحدة النداء، وحدة التلبية، وحدة الزمن، وحدة المكان.
– استعادة الأمة لخاصية الحنيفية السمحة “حنفاء لله”.
– استقامة الأمة.
– قيام الأمة على تلبية نداء الله.
– تعارفوا، وهذا التعارف يشمل:
¬ معرفة أحوال الأمة.
¬ معرفة واجبات الأمة نحو نفسها.
¬ معرفة واجبات الأمة نحو الإنسانية.
– تنقية الأمة من أمراض التفرق والتشتت وكل ما يهدد سلامتها.
– مناقشة مهددات الأمة الفكرية والثقافية والبحث عن حلول لمواجهتها.
– إعادة النظر (تجديد النظر) في وسائل تقديم حقائق الإسلام من جديد لأبناء الأمة وغيرها من العالم.
– المشاركة العامة لكل أبناء الأمة، بكل مستوياتهم المادية، والعلمية، والفكرية، والمهنية لغاية واحدة هي «إخراج الأمة» إلى النور الكامل، والبحث في التعطلات القائمة للقيم الإسلامية في الحياة الاجتماعية للخروج منها.
– الوعي بمركزية الأمة وروافدها في البناء الحضاري.
– التنوعية الفكرية والمذهبية في وعاء واحد هو وعاء «الأمة».
– القوة الروحية للأمة (الذِّكْر – الدعاء – التكبير).
– القوة المادية للأمة (تنوع الروافد العرقية والجغرافية والفكرية).
– توبة الأمة (عن إثم التراجع والانزواء).
– خيرية الأمة (الفعالية المرجوة).
6. مقصد إلى الحضارة:
يظهر هذا المقصد في الجوانب التالية:
– مكة نقطة التقاء العالم القديم والحديث.
– رمزية التضحية الحضارية: العمل على تحرير العالم وإنقاذه من ربقة الوضعية والمادية والاستبداد.
– إعلاء السلام بكل مستوياته: النفسي والمجتمعي والإنساني، بالتخلص من حمولة الدنيا من الأحقاد والكره والبغض.
[1] مسلم (1151).