يخلص المتأمل في نصوص القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة المنوطة بقضية تكوين الأسرة، وبناء الحياة الزوجية، واستمرارها الطيب المثمر، إلى نتيجة فريدة رسختها كل التوجيهات الوحيية بنصوصها في عنوان واحد؛ ألا وهو التماسك الأسري أساس البناء وصخرة التحديات.
كلما كان تماسك الأسرة قوياً وراسخاً تفتت على صخرته كل معوق يرنو إليها، وكل تحدٍّ يقدم عليها سواء كان خارجياً أم داخلياً، فلا تتأثر بمعاول التفكك ولا بأدوات الباطل، ولعل كثيراً من الدعوات المزيفة والقوانين الوضعية التي تحاك بالليل لتصيب سلامة هذه الأسرة المسلمة ثغرتها الوحيدة هذا التماسك قوة وضعفاً؛ فكلما ضعف أطلقت الدعاوى فوجدت لها سمعاً وقبولاً، وتم تمرير القوانين فقعدت لها تسليماً واستساغة، وكلما قوي التماسك رجع أصحابها منهزمين خائبين؛ فكيف يفعلون مع أسرة متماسكة البناء صلبة الصخور؟
وبالتدبر في حديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نستخرج أسس هذا التماسك الأسري ونربطه بالواقع المعاصر؛ فقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وفي رواية: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، وفي رواية: قَالَ: مَا فَعَلَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: خَيْرُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِمْ عَشَاءَهُمْ، فَتَعَشَّوْا وَخَرَجَ الْقَوْمُ، وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى مَا تَقُومُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ، قَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ أَنَّ قَوْماً أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، وَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا»، قَالَ: فَحَمَلَتْ.. (الحديث)، وفي رواية: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ.
ففي ظل هذا الحديث الشريف الذي يبرهن بقوة كيف كانت الأسرة المسلمة بنواتها الأولى في زمن الخيرية؛ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، نوضح هذه الأسس لهذا التماسك الأسري المتمثل في موقف الزوجين أم سليم، وأبي طلحة، كنموذج عظيم لبيت يحمل جماليات التكوين مع قوة التأسيس، وهي:
1- الزوجان أصل التكوين الأسري وعمادا الرسوخ الزمني: فجميع الخطابات القرآنية والتوجيهات النبوية عندما وجهت الأسرة وتحدثت عن تكوينها لم تكن تتحدث في مقامها الأول إلا عن طرفي العقد والميثاق الغليظ (الزوجين) الذي يجمع بين الطرفين في لُحمة شديدة التماسك؛ فهما وإن اختلفت أجسادهما فإنهما متحدان في مشاعرهما وتوجهاتهما وبوصلة حياتهما، فجعل قوة البدء منهما، وربانية الانطلاق فيهما، وجمال الاتفاق بينهما أهم شيء في تماسك الأسرة وأبرز صخورها قوة وصلابة أمام عواصف التقلبات وتراكم المتغيرات، ومحدثات الزمن، وقد مثلت أم سليم مع أبي طلحة بهذا الفعل دلائل هذا الأمر وتأكيده.
2- إدراكهما لطبيعة الحياة بين التسخير والتكدير: فلا تدوم الأحوال أبداً؛ فالأيام دُولٌ، كما قال تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، والزوجان في الصدارة من ذلك، فلا يدوم عيش على وتيرة واحدة، والمرء متقلب بين يوم تساق له فيه العطايا تمكيناً وتسخيراً، وغدٍ يمتحن فيها أخذاً وتكديراً، والزوجان معاً يدركان ذلك جيداً فهماً ووعياً، ويرضيان به إيماناً واتباعاً، ويثبتان معه احتساباً وخُلفاً، وقد دلت أم سليم مع أبي طلحة على هذا الإدراك والرضا والثبات فرزقا الأجر والخلف.
3- البيئة الإيمانية الحافظة والمخففة للمتغيرات: وهنا تبرز البيئة المسجدية التي تهون المحن وتسوق المنح، تربط الزوجين بربهما على كافة أحوالهما وتجعل جبل الهموم في واديها ذرات هباء، يغدو أبو طلحة إلى المسجد إلى ملاذ وركن قويم، إلى بيت ربه وسنده ومعتمده، تخفيفاً لحمله، وتقوية لأمره، واستكمالاً لمسيره، وطمعاً في خزائنه؛ فيجد ربه مقبلاً عليه، رابطاً على قلبه، مسخراً عبيده لعبده، مقوياً لتلقي قدره وقضائه، ولا أظن أن تماسكاً يكون في بيت أو أسرة لا يستمد من بيت الله سبحانه إلا دبت إليه الهشاشة والضعف.
4- استمرارية الحياة وعدم التوقف طويلاً مع الحدث: فما تحضير أم سليم عشاء زوجها وضيفانه، وتصنعها عروساً لزوجها إلا تأكيد هذا الفهم الراقي والتكوين السامي، نعم نتألم لما يمر علينا ونفقد معه أجمل ثمارنا فلذة أكبادنا وقرة العينين -وإن كان فقْد الولد من الأم أشق منه من الأب- إلا أن الحياة لن تتوقف عند هذا الحدث، ولا يجوز أن نقرأ المشهد بغير ما أمرنا الشرع به صبراً واحتساباً؛ فالاجتماع يقيني غداً بوعد الله ورسوله، ولكن ما زلنا في تماسكنا سائرين إلى تحصيل أجورنا وتعمير دنيانا وتشييد آخرتنا.
5- الرؤية والحلول الإسلامية لا الحلول المستوردة: فتوصيف أم سليم لابتلائهما ينبع من الارتباط الوثيق بالمنهج الإسلامي والتربية النبوية؛ فما العارية والأمانة التي يجب أن ترد لأهلها وأعظمها أمانة الله تعالى إلا إفراز لتربية ورؤية إسلامية عميقة، وما طلب الاحتساب والصبر منها، والاحتكام من أبي طلحة إلى المرجعية الإسلامية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تأكيد لما تواترت عليه التوجيهات الإلهية والنبوية في كل مصيبة ومدلهمة في الرجوع والاحتكام إلى الله ورسوله، وكل هذا نتاج رؤية عظمة هذا الدين في توفير الحل الإسلامي الذي لا يضاهيه حل ولا يساويه قانون.
6- وبقي أن نؤكد جملة من أسس التماسك الأسري أفرزتها أسرة أبي طلحة، منها: جمال الأسلوب الراقي في التعامل بينهما، وفن التعامل مع الابتلاء بأحسن صورة، وبيان رؤية وجه الخير في كل ما يمران به، وتقديم المآل على الحال، والأصل بينهما التخفيف لا التثقيل، وتماسك الزوجة باب لتماسك الزوج، وانتفاء التجريح والتسفيه بينهما الدالين على الاحترام والتوقير.
7- وختاماً، يأتي الختم النبوي لتأكيد ما فعلته أم سليم بالدعاء لهما ومباركة صنيعهما: وما هذا إلا تأكيد لهذا الأمر، أمر التماسك الأسري النابع من فهم الدين وإدراك طبيعة المنتسبين وتأمين على سيرهما وبركة لحياتهما.