أستاذي الكريم، تحية تقدير لباب «مستشارك» ولمجلة «المجتمع» الموقرة.
نشأت في بيت يمثل أعتى دكتاتوريات العالم بسبب والدي والدتي؛ فوالدي، رحمه الله، كان معتداً بذاته دون غرور، فقد كان أباً متسلطاً رغم حنيته وكرمه الذي يصل حد البزخ وحبه المفرط وحرصه على مصلحة زوجته وأولاده، لكنه من منطلق ما يراه هو -وهو فقط- ومن منطلق أنه الأعلم بما يصلحنا كان يختار لنا كل شيء من أول الملابس حتى تخصص الجامعة، أما أمي فكانت سيدة منسحبة لا تعلم في أي مناقشة غير «حاضر».
في الجامعة، رغم أنني ملتزمة بالزي الشرعي، تعرفت على بعض الفتيات اللائي يطلق عليهن متحررات، وما وثق علاقتي بهن هو تبنيهن لما يعرف بـ«النسوية»، كان حديثي معهن عن المساواة بين الجنسين والتساؤل حول سبب تسلُّط الرجل وخنوع المرأة.. يشفي غليلي من أبي! كانت فكرة الزواج –مما رأيته من أبي- تؤرقني خوفاً من صورة العبودية التي تنتظرني.
توفي أبي، رحمة الله عليه، وكانت الكارثة.. أم لا تعرف من أمر الحياة غير طاعة زوجها، وأولاد لم يتعودوا على إدارة وممارسة أمورهم إلا من خلال توجهات والد حكيم، نعم كم أدركنا حكمته بعد وفاته، لكنه لم يورثنا منها شيئاً!
تخرجت وعملت ومارست الحياة الطبيعية، واكتسبت خبرات ومعارف عدة، والأهم إدارة بيتنا (أمي وإخوتي)، تقدم لي بعض الشباب، لكني كنت سرعان ما أعتذر عندما أستشعر أن يمارس دوره كرجل! نعم كنت أبحث عن زوج خاص؛ أكون حرة لا يأمرني، ولا يسألني، لا أشعر تجاهه بأي نقص، ولا ينظر تجاهي بأي نظرة استعلاء لأنه رجل وأنا أنثى.
شاء الله تعالى أن ينتقل زميل لنا من إدارة أخرى لعدم حاجتهم إليه، مهذب أنيق، لكن أداءه ضعيف، وشِيع عنه أنه غني وليس محتاجاً للوظيفة، ولاحظت أنه يطيل النظر إليَّ ولكن إذا ما نظرت إليه فإنه سرعان ما ينظر إلى الأرض في خجل وتضطرب تصرفاته، ثم فاجأتني رئيسة القسم: ما رأيك في أحمد؟ وأردفت أن والدته صديقتها، وقد عبَّر لها عن إعجابه بي، وطلب منها أن أعرف رأيك، لأنه يخجل أن يحدثك مباشرة! (حقيقة شعرت بالزهو)، ثم أضافت كثيراً من المعلومات التي تحلم بها أي فتاة، لكنني لم أهتم؛ ما أثار إعجابي هو خجله، وتذكرت اضطرابه عندما أنظر إليه وكأنه طفل ضبطته أمه يعبث ولا يعرف كيف يبرر تصرفه!
تزوجت أحمد وهو الابن الوحيد لأمه التي ترمَّلت وعمره سنتان، وخوفاً عليه لم تتزوج وكانت ميسورة الحال، فتفرغت له وأحاطته بالحب والرعاية، حتى إنها حولته إلى التعليم المنزلي لأن أحد زملائه ضربه وهو في المرحلة الابتدائية، أما في الجامعة فكانت توصله وتنتظره لتعود به، خبرات أحمد خارج نطاق والدته توقفت على آخر يوم كان في المدرسة الابتدائية، هو مجرد جوارح لعقل أمه، من أول لقاء كنت قد قررت الزواج به، فهو غايتي المنشودة.
أنا التي أدير الحوار، وإن أردت معرفة رأيه في أي موضوع فدائماً رأيه «كما تودين»! كم كنت سعيدة بدوري كزوج وزوجة! لقد تجاوزت علاقتي بأحمد كل الأفكار النسوية، وكم كنت أشعر بالزهو من شخصية أحمد الطيعة وأنه لا دور له في حياتي إلا في الإنفاق والعلاقة الحميمية، وأصدقك القول: كنت في بداية علاقتنا الزوجية أشعر بالانكسار لرغبتي في اللقاء، وأعتبر ذلك ضعفاً أنثوياً!
مرت الشهور الأولى وأنا مستمتعة بممارستي لدوري كمسؤولة الأسرة، الآمرة الناهية، وكم كنت معجبة بدور زوجي على هامش البيت.
الآن وقد مر ثلاث سنوات على زواجنا ولم يحدث حمل رغم أن تحليلاتنا طيبة، والمشكلة ليست في ذلك، لكنني مللت وسئمت.. نعم سئمت القيام بدور الزوج والزوجة، وسئمت القيام بدور الأم المسؤولة عن رضيع في السابعة والعشرين من عمره!
لقد اكتشفت أنني أنثى تحتاج إلى رجل تحتمي به ولا يحتمي بها، رجل حكيم يكون رباً لأسرتها يستشيرها ولا يقهرها، رجل لا مجرد ذَكَر.. حتى اللقاء الحميمي فقدت متعته، لقد اشتقت لقوامة أبي دون تسلط، اشتقت أن أكون زوجة تشارك زوجها في إدارة أسرتهما وتتبعه إن حزم أمراً واتخذ قراراً.
التحليل
المشكلة تتضمن عدة محاور:
1- التربية والحب المرضي:
هل يمكن أن يتحول حبنا لأولادنا وحرصنا عليهم إلى سبب في فشلهم؟ نعم، إن ثمرة التربية يجب أن تكون أولاداً قادرين على مكابدة الحياة، وتحقيق أهدافهم بطريقة مشروعة، من خلال ما يتلقونه من معارف وما يكتسبونه من مهارات تصقل قدراتهم، يتم ذلك من خلال التدريب والتمرس بما يتناسب ونموهم الإدراكي وقدراتهم بصفة عامة.
إن الممارسة العملية منذ الطفولة لما يتلقاه الإنسان من معلومات -حتى القيم- هي التي تصقل مهاراته وقدراته، حتى وإن فشل في محاولة فسيتعلم من تجربته، إن حرص هذه الأم وخوفها على ابنها أفقده القدرة على أن يكون زوجاً ناهيك على أن يكون إنساناً يدير حياته، كذلك ذلك الأب الذي فهم التربية بأن يفكر لأولاده وعبّر عن حبه لهم بأن وفّر خبرته ورؤيته باختياره ما ينفعهم.
2- نموذج الوالدين وأثره على تربية الأولاد:
إن تربية الوالدين لأولادهما ليست فقط من خلال توجهاتهما لهم، ولكن -وهو الأهم والأكثر تأثيراً على الأولاد- هو نموذج علاقة الوالدين معاً، وكذلك نموذج كل من الوالدين مع الأولاد.
إن سيطرة الأب وخنوع الأم، ولّد لديكِ رفضاً وجعلك تجنحين إلى التطرف وتبنيت دعوة النسوية، وقد يؤثر هذا النموذج سلبياً بطريقة أخرى حيث قد يرى غيرك أن هذه العلاقة «المرضية» بين الوالدين هي النموذج الطبيعي؛ فتحاكي البنت دور أمها خنوعاً، ويحاكي الابن دور والده سيطرة.
3- مفهوم القوامة:
إن القوامة تعني قيام الزوج برعاية زوجته وأولاده ومشاورتهم فيما يخص الأسرة، ولكن يتحمل هو المسؤولية في الأخذ بأسباب حماية أسرته واتخاذ ما يراه مناسباً في ذلك، وقد سبق لنا مناقشة ذلك بالتفصيل في باب «المودة والرحمة قراري» بالموقع الإلكتروني لـ«المجتمع» تحت محور مفاهيم زوجية يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليه.
4- حكمة الخالق والشارع الحكيم:
يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف: 189)؛ فمن أسباب السكينة بين الزوجين أن يتكامل دور كل منهما مع الآخر؛ لذا خص الله، جلَّت حكمته، كل زوج بخصائص تمكنه من القيام بدوره، ولم يقتصر هذا التخصيص على التكوين البدني فقط، بل امتد للتكوين النفسي؛ فالرجل مهيأ نفسياً للولاية على محارمه وإن كانت أمه أو جدته، بما يدفعه للجد والضرب في الأرض طلباً لرزق من يعول، ناهيك عن حمايتهم معنوياً وبدنياً.
إن البناء النفسي للرجل منذ طفولته يُهيئه ويجعله مستعداً لتحمل مسؤولياته، وتساعد التربية السوية على تنمية شخصيته كرجل، وكذا تنمية قدراته العقلية والبدنية بما يتوافق ودوره في الحياة، وكذا المرأة، أما إذا حدث خلل في التربية من منطلق الحب والخوف على الولد -كما حدث لأحمد- فإنه لا يفقد فقط المعارف والمهارات التي تمكنه لممارسة دوره كرجل ومن ثم تضعف قدراته، بل -وهو الأخطر- هو تشويش صورته الذهنية عن ذاته كرجل، وضعف ثقته في ذاته، وتقلص دوره إلى مجرد تابع ومنتظر من يلبي له أبسط متطلبات حياته.
أما الصورة الذهنية السلبية عن الدور العظيم للمرأة كزوجة الذي تقلص في الطاعة السلبية للزوج، وكذا الصورة السلبية لقوامة الزوج التي وصلت إلى حد الطغيان النفسي وقهر الزوجة، فولّد رد فعل عكسياً حول التصور الذهني عن الذات.
في المقابل، هي لا تستطيع مواجهة والدها أو تقوّي من شكيمة والدتها، فتمردت على شخصيتها الأنثوية، وتقمصت دون أن تدري دور الرجل وهو ضد طبيعتها وما وهبها الله تعالى من صفات نفسية وبدنية كأنثى، أيضاً كان لصديقات السوء وتبني الأفكار النسوية تبرير نفسي ومعين للثقافة الفاسدة؛ ما هيأ لها بيئة نفسية مريحة وانتقاماً مهذباً من شخصية والدها المسيطرة.
الحل
الفطرة السوية غالبة:
يقول المولى عز وجل: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 50)، وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، الحمد لله، لقد استطاعت فطرتك السوية أن تتغلب على تجربتك الأسرية السلبية وكذا الأفكار الهدامة للأسرة.
ماذا تفعلين؟
لقد ساهمت في مشكلتك بقيامك بدور الأم والزوجة فلم ينفطم زوجك عن أمه بزواجه منك، بل أكدتِ له ضمان نمط الحياة الاتكالية التي نشأ فيها؛ لذا عليك أن تتحملي تكلفة العلاج.
1- التأهيل الديني والسلوكي: إن إخلاص العمل لله تعالى أساس القبول والتوفيق، فعليك إخلاص النية لله سبحانه في إصلاح وترميم بيتك، ثم دعاء الله تعالى أن يوفقك لهذا، وكلاكما يحتاج إلى إعادة تأهيل ديني للتعرف على قبس من حكمة الشارع الحكيم في تنظيم الأسرة المسلمة، وتأهيل سلوكي للتدريب على صياغة العلاقة بينكما على مبادئ ديننا الحنيف، والتزود بالمعارف والمهارات الحياتية الحديثة.
2- إطلاع زوجك على حقيقة مشاعرك: من المهم إطلاع زوجك على حقيقة مشاعرك، وإخباره أن هناك خطورة على حياتكما الزوجية إن لم يعدّل فكره وسلوكه، وأن عليه القيام بدوره المكلف به شرعاً كزوج.
3- خطة العلاج:
أ- التحفيز: حتى يمكنك القيام بدور مؤثر لتنقذي زوجك من مرحلة الطفولة التي استمرأها، ومن ثم ترميم وإعادة هيكلة علاقتكما وإعادة بناء بيت سليم؛ يؤدي التحفيز دوراً مؤثراً في استنهاض طاقة الإنسان، خاصة أنه يحبك ولك تأثير عليه؛ لذا فأنت أعلم بمفاتيح استثارة همته وإطلاق طاقاته، ولا حرج أن يفهم أنه إن لم يستجب ويطور من نفسه ويتحمل مسؤولياته كزوج، فسيكون الانفصال هو الحل.
ب- التزود بالمعارف الضرورية لقوامته لأسرته: أولاً والأهم هو الفهم الصحيح للضوابط الشرعية لعلاقة الزوجين، ودور كل منهما في بناء بيت إسلامي على تقوى من الله، ومفهوم قوامة الرجل وكيفية أداء هذه الأمانة العظيمة.
جـ- التدريب التدريجي للقيام بمهامه كزوج: رغم قيمة وأهمية التزود المعرفي في تصحيح الصورة الذهنية لزوجك، فإنه يحتاج إلى تدريب تدريجي لتطبيق هذه المعارف والقيام بمهامه كزوج، وأنت من جانبك عليك مساعدته لتحقيق رسالته.
د- التشجيع: إن دعمك النفسي مهم لاستمرار جهوده؛ فعليك تشجيعه مهما كان إنجازه ضعيفاً، حتى يكتسب ثقة بنفسه.
وفي النهاية، وبعد كل هذا، إن استجاب زوجك فلله الحمد، وإلا فعليك استشارة طبيب نفسي لأن كلاً منكما قد يحتاج إلى جلسات بناء على تشخيص حالته، كما أنصحك بتأجيل الحمل حالياً؛ لأن هناك احتمالاً ألا يستجيب زوجك ويفضل العودة لحضن أمه عن أن يكون زوجاً وأباً مسؤولاً.