كان نور الدين رجل عقيدة، وكان أظهر ما في خصائصه هو إيمانه الإسلامي العميق، قال عنه ابن كثير: «.. كان مجاهداً في الفرنج، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صحيح الاعتقاد، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله».
وكان رحمه الله يملك رؤية نهوض قائمة على إحياء السُّنة، وقمع البدعة، قال عنه ابن كثير: «أظهر نور الدين ببلاده السُّنة، وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرفض كان ظاهراً» (الجهاد والتجديد، ص 330).
وكان يعاقب المبتدعة بأشد العقوبات: قيل: إن رجلاً أظهر شيئاً من التشبيه، فأُركب على حماره، وأمر بصفعه، وطيف به في البلد، ونفاه إلى حرَّان، وكان نور الدين يتحرى السُّنة في أموره كلها، ومن أعظم إنجازات دولته إسقاط الدولة الفاطمية، وكان الفضل لله ثم للحملات المتوالية، التي أرسلها نور الدين محمود؛ حتى خلص المسلمين من شرورها، وأعلن تبعيتها للخلافة العباسية السُّنية، وكان رأي نور الدين في الدولة العبيدية الفاطمية يتلخص في رسالته للخليفة العباسي، وهو يبشره بفتح مصر، وسقوط دولة الإلحاد، والرفض، والبدعة. (الجهاد والتجديد، ص 331).
يقول فيها: «وطالما بقيت 280 سنة مملوءة بحزب الشياطين حتى أذن الله لغمتها بالانفراج، واجتمع فيها داءان: الكفر، والبدعة، وتمكنا من إزالة الإلحاد والرفض، ومن إقامة الفرض»، وسيأتي الحديث عن أساليب ومنهج نور الدين في إزالة الدولة الفاطمية في مصر. (الجهاد والتجديد، ص 331).
دور نور الدين في دعم المذهب السُّني:
مهدت مدارس نظام الملك، رحمه الله، السبيل، ويسرته أمام نور الدين، والأيوبيين، فأضحى الطريق معبداً لتحقيق الهدف الذي أنشئت النظاميات من أجله؛ وهو العمل على مناهضة الفكر الشيعي، ودعم المذهب السُّني، وقد عقد نور الدين العزم على صبغ دولته بالكتاب والسُّنة، ومواجهة الفكر الشيعي الرافضي، الذي كان محصوراً في حلب، ودمشق، ومصر، وبذل جهوداً كبيرة ليمكّن لمذهب السُّنة، إلا أن هذه الجهود كانت تختلف في طبيعتها باختلاف هذه البيئات الثلاث، وإليك جهود نور الدين محمود في الأقاليم الثلاثة: (التاريخ السياسي والفكري للمذهب السُّني، ص 206).
1- جهود نور الدين في حلب:
أخذ نفوذ الشيعة في حلب يظهر بوضوح في أواخر أيام سيف الدولة الحمداني (333 – 356هـ/ 944 – 967م)؛ لأن بني حمدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة الإمامية، فيسَّروا لدعاة هذا المذهب الطريق لنشر الدعوة فيها، ثم عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر السُّنة، وإحلال شعائر الشيعة محلها، وذلك عندما غيَّر سعد الدولة أبو المعالي (356 – 381هـ/ 967 – 991م) ابن سيف الدولة الأذان بها في عام 367هـ/ 977م، وزاد فيه: «حيَّ على خير العمل محمد وعلي خير البشر»، فكان هذا مبدأ ظهور الإمامية بحلب، وما زال نفوذهم يزداد نتيجة لتعاقب بعض الأسر الشيعية على حكمها؛ كال مرداس، والعقيليين، حتى أصبح شعار الرفض بها ظاهراً.
إلى جانب الشيعة الإمامية وجدت قلة من الشيعة الإسماعيلية، ازداد نفوذهم في حلب في عهد رضوان بن تتش الذي أمل أن ينصروه على أخيه دقاق، ويساعدوه في أخذ دمشق منه، ومن ثم بنى لهم بحلب أول دار للدعوة، ودعا على منابرها للفاطميين فترة يسيرة من الزمن، ومن هؤلاء وأولئك تكون مجتمع الشيعة في حلب. (زبدة تاريخ حلب، 1/ 172).
ومعظم هؤلاء الشيعة كانوا متعصبين، فقد كان المذهب الشيعي متغلغلاً في حلب، فقام نور الدين محمود باتخاذ خطوات سياسية، واكبتها في الوقت نفسه خطوات فكرية مهمة؛ ففي رجب 543هـ/ 1148م؛ أي بعد عامين تقريباً من استقراره في حلب، رأيناه يأمر الشيعة بترك «حي على خير العمل» في الأذان، وينكر عليهم إنكاراً شديداً، ويمنعهم من سَبِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحذرهم من مغبة العودة إلى ما نُهوا عنه، فعَظُمَ هذا الأمر على الإسماعيلية، وأهل التشيُّع، وضاقت به صدورهم، وهاجوا، وماجوا، ثم سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة، والهيبة المحذورة.
2- جهود نور الدين في الإحياء السُّني في دمشق:
استولى نور الدين على دمشق في صفر 549هـ/ 1154م، ومن ثم واصل جهوده لتنفيذ خطته في دعم العقيدة السُّنية، وكان منهجه في دعم المذهب السُّني في دمشق قد خضع لزيادة في أعبائه العسكريـة، حيث أصبح مجاوراً لمملكة بيت المقدس، أكبر المراكز الصليبية قوة، وأخطرها شأنـاً؛ ولذا فإن المنهـج الذي سلكـه نور الدين في دعم المذهب السُّني قصد إلى مواجهة هذه الحالة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا بدَّ أن تصبح دمشق بمثابة مركز إشعاع عقائدي، تنطلق منه جهود علماء السُّنة، للقضاء على المذاهب المنحرفة، وتمهيد الطريق لسيطرة المذهب السُّني -الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- ولذلك رأينا خطة نور الدين في دمشق تسير في ثلاثة اتجاهات رئيسة. (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، 1/202):
الأول: تركز في العناية بإنشاء المدارس السُّنية، وَرُبُطِ الصوفية، غير أن مدارسه في دمشق اهتمت بفقهاء المذهبين الحنفي، والشافعي، وكانت عناية نور الدين بمدارس الفريق الأول أكثر، استجابة لميل طبيعي إلى هذا المذهب، الذي كان يعتنقه دون تعصب.
الثاني: كان منصباً على العناية بالحديث الشريف دراسة وتدريساً، ومن ثم بنى أكبر دار للحديث في دمشق، ووكَّل أمر مشيختها إلى أحد أعلام عصره، وهو الحافظ الكبير تقي الدين أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عساكر (ت 571هـ/ 1175م).
الثالث: كان موجهاً إلى العناية بتربية النشء تربية سُنية، فإن نور الدين بنى في دمشق وغيرها من البلاد مكاتب للأيتام، وأجرى عليهم وعلى معلميهم النفقات الوفيرة، كما خصص للأيتام الذي يقرؤون القران -بالمساجد التي شيدها- أوقافاً معلومة، يذكر ابن كثير: «أن نور الدين وقف وقفاً، على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة».
3- عوامل نجاح نور الدين في تحقيق برنامجه الإصلاحي:
إنَّ جهوده جاءت تالية لجهود المدارس النظامية، فانتفع بما حققته من نتائج، وفي مقدمتها تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السُّني، والانتصار له.
كان نور الدين كقائد سياسي وعسكري على قناعة راسخة بالخطورة العظيمة التي يمثلها المدُّ الشيعي الرافضي في سبيل نهوض الأمة، والاستمرار في المقاومة للصليبيين، ولذلك جعل من أهدافه القضاء على الدولة الفاطمية، التي ترعى الفكر الشيعي الرافضي، والعمل على التصدي لدعاة التشيع الرافضي بالفكر، والعلم، والثقافة، والسياسة، والقوة.
إن نور الدين محمود أيقن بأن العقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين، هي ما كان منبعها كتاب الله، وسُنة رسوله، ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها، أو جزئية من جزئياتها، ثم إن السلف الصالح الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دوَّنوا هذه العقيدة تدويناً ميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال، فلذلك عمل على معرفتها، وتعليمها، وتربية الناس عليها من خلال جهاز العلماء في الدولة، فالطريق للنهوض لا بد فيه من وحدة الصف، ووحدة الصف ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسُّنة، والطريق لفهم القرآن والسُّنة هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والتابعين بإحسان، ومن سار على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين. (البداية والنهاية نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص 217).
_____________________________
1- البداية والنهاية، عماد الدين ابن كثير.
2- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، أبو القاسم شهاب عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المشهور بأبي شامة.
3- الجهاد والتجديد، إبراهيم العبادي.
4- التاريخ السياسي والفكري للمذهب السُّني، د. عبدالمجيد بدوي.
5- عصر الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.