ليس الإنسانُ سيدًا على هذه الطبيعة ولا مالكًا لها كما تدعي الحداثة، وليس ثَمَّ دليلٌ فيزيائيٌّ أو غيرُ فيزيائيٍّ على دعوى كهذه، إنْ هي إلا أسطورة من أساطير الإنسان المعاصر! ولا تزال الطبيعة تفاجئ الإنسان كل يوم بالجديد الذي لم يكن يعرفه، ولا يزال الإنسان عاجزاً عن مواجهة الأخطار وتذليل الكائنات وإخضاعها، وما زلنا نرقب العلماء وقد خَّرت علومهم ساجدة أمام ما في هذه الطبيعة من إعجاز في التصميم والتنظيم، لكنْ مع ذلك نرى الإنسان – بدرجة ما – مُسَلَّطاً ومميَّزًا، مسلطًا على هذه الطبيعة ومميَّزًا بين ما تحتويه من أحياء؛ فما وجه هذا التمَيُّز؟ وما علة هذا التسليط؟ وكذلك نرى الطبيعة – رغم استعصائها وأَنَفَتِها – مَذَلّلة ومسخرة للإنسان؛ فما وجه ذلك أيضاً؟
ولا ينبئك مثل خبير
عن هذا الأسئلة الكبيرة الخطيرة يجيبك القرآن، ولا يجيبك غير القرآن؛ فالإنسانُ في نهاية الأمر موضوعُ هذا القرآن، وقد ذكر الله تعالى الغاية من خلق الإنسان في آية من كتابه العزيز: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، قال الطبريّ: «خليفة عنِّي؛ يخلفني في إجراء أحكامي في أرضي وبين خلقي»، فالإنسان إذَنْ خليفةٌ مستخلَفٌ من قبل الله تعالى في هذه الأرض؛ لِيَعْمُرَها بمنهج الله، وهذه الخلافة غايةٌ متفرعةٌ عن الغاية الأمّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
هنا تبرز لنا في ثقافتنا قيمةٌ ضمن القيم المعيارية الحاكمة، وهي قيمة الاستخلاف، وما من نظام في حياة البشرية يقوم بدون منظومة من القِيَم التي يرتضيها المجتمع السياسيّ، والقِيَمُ تستمد سماتها من جذرها اللغوي الدال – بحسب استعمالات العرب – على المعيارية والثبات والاستقرار والاستقامة.
اقصدْ البحر وخَلِّ القنوات
إنّ الاستخلاف قيمة عظيمة، قيمة إنسانية تؤسس لنظم تحقق الغاية من خلق الإنسان، وتحقق الانسجام بين هذا الإنسان وبين ما حوله من الطبيعة والكائنات والأحياء، إنّها قيمة لها دور كبير في حسم الكثير من القضايا الكبرى التي حيرت الفلاسفة والمفكرين، وعلى رأس تلك القضايا قضية الأصل لنشأة الدولة، فلم نر أحداً منهم أتى على ما يقول بمستند تاريخي أو وثيقة إنسانية، ولم نجدهم -على اختلاف أمصارهم وأعصارهم- إلا متبعين لسَنَنٍ واحد، وهو الفرض المدعوم ببعض القرائن.
ومن تَتَبَّع دوافع القائلين بهذه النظريات كافّة يتبين له أن وراء كل نظرية دافع سياسي مُلِحٌّ، وحسبك من هذا أن تعلم أن اختلاف “توماس هوبز” و”جون لوك” و”جان جاك روسو” في تفاصيل النظرية التي اتفقوا علي أصلها إجمالا ــ نظرية العقد الاجتماعي ــ كان مَرَدُّه الواقع السياسي لكل منهم، هذا على الرغم من أنّ هذه القضية تُعَدُّ أساسًا تُبنَى عليه النّظمُ السياسية، ومنبعًا تَستَمدُّ منه الحياةُ السياسية قواعدَها وأحكامها، فمن رامَ الإصلاح السياسي بما يُسْعِدُ الإنسانَ ويساعدُهُ على أداء وظيفتيّ العبادة والعمارة، ثم فاته هذا الأصل؛ فقد لَاذَ بأطراف الجداول وزهد في البحر الزاخر.
أهي حقًا ملكٌ لنا؟
ويظهر أثر مبدأ الاستخلاف في الاقتصاد من جذوره، ويسري منها إلى كافّة فروعه، فملكية الإنسان للأموال والأعيان ليست ملكية مطلقة، وإنّما هي ملكية استخلاف، وهذا طبيعيّ جداً ومنطقيّ للغاية؛ فهذه الممتلكات ملكٌ لخالقها، وملكية الخالق لها لا تزول عنها بامتلاك المخلوق لها، ومن هنا كانت ملكية المخلوق عاريةً عن الإطلاق موسومة بالاستخلاف: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد: 7)، وقد نقل الشاطبيّ عن العلماء قولهم: “الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها، وإنما للعبد منها المنافع”، وهذا الأصل تنبثق منه تشريعات تنظم حرية المرء في الكسب وفي الإنفاق.
إنَّ الحرية التي يقررها الإسلام ويطلقها إلى أبعد مدى حرية منظمة منضبطة بأحكام شرعية؛ لضمان عدم الإضرار بالخلق، وعدم تجاوز شريعة الخالق، ولقد أساء الغرب – بسبب غياب هذا الأصل – استخدام مبدأ الحرية؛ حتى غَدَتْ أعظمُ تجلياتها متمثلةً في حرية الرأسمالي في أن يفعل ما يشاء من أجل تعظيم ثرواته، ومع صعود الاتجاه النيوليبرالي الذي يركز على تحرير الأسواق وعولمة الأنشطة الاقتصادية يقع الضرر البالغ على جميع البشر؛ لذلك -ومن منطلق مبدأ الاستخلاف- وضعت الشريعة أحكاماً تنظم الكسب والإنفاق، كأحكام المعاملات المالية وأحكام الأسواق وأحكام الزكاة والوقف، وغير ذلك؛ بغرض تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الإنسان من أن يدمر نفسه بماله.
من ينقذ العباد من هذا الفساد؟
والإنسان عندما لا يستشعر معنى الاستخلاف، ولا يستدعي مسئوليات الخلافة، وينطلق من غروره العلمي ومن زعمه بأنّه صاحب السيادة المطلقة على الطبيعة؛ لا يتورع تجاه هذه الطبيعة ولا يقسط مع ما يحيط به من البيئة الطبيعية؛ إذْ إنّ المهم فقط بالنسبة له هو تنمية الثروة وتضخيمها، وكما قال إيدموند . ج . بورن: «وهكذا فقد أثرت القيم الاقتصادية على علاقة الإنسان ببيئته، وذلك -مثلًا- في إطار التوسع في الصناعات التي تعتمد على وقود المخلفات العضوية».
ولقد أساءت الحضارة المعاصرة القائمة على الحداثة والعلمنة إلى الطبيعة من حولنا؛ فما عاد الإنسان أمينا عليها ولا متحملا لمسئوليته تجاهها، وكما قال أحد مفكري الغرب وعلمائهم: «إنَّ ثلاثة قرون من النمو العلمي والتكنولوجي قد تركت حضارتنا في وضع يتعذر الدفاع عنه، وجعلتنا في نزاع مع البيئة الطبيعية، وعلى المستوى الأعمق في نزاع مع الروح الجماعية»، وليس هنا في هذا المقام أبلغ ولا أصدق من قول الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، فهل من منقذ للعباد من هذا الفساد؟! لا أحسب أنّه بالإمكان إصلاح ما فسد في شخصية الإنسان وفيما حوله من البيئة الطبيعة إلا بإحياء قيمة الاستخلاف.