تمثل العطلة الصيفية شهور اللعب والانطلاق والترويح عن النفس للأطفال والشباب، ولذا يترقبونها بشغف وسعادة، بعيدًا عن الروتين اليومي للدراسة النظامية، التي تحولت في أغلب بلداننا العربية إلى عبء نفسي ينفرون منه تقليدياً بالتنزه والذهاب للاسترخاء على الشواطئ أو بالسفر إلى وجهات سياحية شهيرة، غير أن أغلب تلك الأنشطة لا تمثل أكثر من ترفيه مشروع لا يسهم في دعم التكوين النفسي والمعرفي لهم.
ويعني ذلك أن شهور الصيف عطلة مما هو مفيد للأطفال والشباب، وهو ما تحاول عديد التجارب الجديدة تجاوزه، عبر ما يمكن تسميته بـ«مدرسة التعلم بالمتعة»، عبر ربط أنشطة الترفيه بأهداف التكوين النفسي والمعرفي، وهو ما ينبغي أن يكون مسار التعلم في فترة الدراسة أيضاً، لولا واقع مدارسنا المرير.
وإزاء ذلك، يتزايد الاتجاه من جانب أولياء الأمور نحو مسار التعليم الموازي أو الحر كبديل عن مسار الدراسة النظامية، بما يقضي على ثنائية الدراسة – العطلة في أذهان الأطفال والشباب، باعتبار أن عملية التعلم والترفيه صنوان لا يفترقان.
لكن تعميم هذا المسار لا يبدو واقعياً لكل البيئات والظروف الاجتماعية، إذ تحظر بعض الدول مسار التعليم الحر، فيما يضع تزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية أعباء إضافية لكسب العيش على كل من الزوج والزوجة، ما يجعل من تفرغ أحدهما لمسار التعليم الموازي أمراً شديد الصعوبة.
وإزاء ذلك، فمحاولة تحقيق أقصى استثمار ممكن لفترة العطلة الصيفية ربما يكون السيناريو الواقعي لأغلب الأسر العربية، عبر اعتماد تجارب جديدة ومثيرة من شأنها تعليم الأطفال والشباب مهارات وقيماً عبر أنشطة يغلب عليها الترفيه والإمتاع.
فالطهي وإتقان لغة أجنبية والرسم، وغيرها من المهارات، يمكن أن تكون ضمن مسار أنشطة الترفيه واللعب، دون مقررات، ما يجعل الأطفال والشباب في حالة تعلم تلقائي دون تكلف أو تلقٍّ، وهو ما لا يعد مفيدًا للنمو الشخصي فقط، لكنه يوفر فرصًا مهنية في مستقبل الشباب أيضاً، ويساعد على توسيع شبكة علاقاتهم الاجتماعية.
وعلى سبيل المثال، يمكن تحويل تجارب العلوم، الصعبة بالنسبة للأطفال، إلى أنشطة أشبه بمغامرات جذابة، ينتظرون نتائجها بشغف ويحصدون معها الجوائز أيضاً، وهو ما يحبب المنخرطين بهذه التجارب في العلوم التجريبية.
وتشير دراسة أجريت على 25 تجربة علمية، وأوردها موقع «Little Bins for Litt»، إلى أن فترة العطلة الصيفية زرعت الشغف بالعلوم لدى الأطفال، خاصة أولئك الذين لم يألفوا العلوم في المنزل أو المدرسة، فبتجارب بسيطة، مثل تكوين ساعة شمسية منزلية، وعمل طلاء رصيف فوّار، وتشكيل بركان متفجر من البطيخ، وتكوين صابون فقاعات مضيء، تحول تجارب العلوم إلى مغامرات شيقة، وهو ما يتناسب تماماً مع نفسية الأطفال والشباب.
ماذا لو صنع هؤلاء الأطفال صاروخ خل الصودا الخارق، أو طائرات ورقية ذاتية الصنع، أو قوس قزح في كوب، أو رسائل سرية بالحبر المخفي، أو نظام شمسي منزلي للطهي؟ تشير دراسة أجريت على 14 تجربة علمية صيفية، وأوردها موقع «Science Alcovehttps»، إلى نتائج إيجابية في تحفيز الأطفال على الاستمتاع بالتعلم خلال فترة الإجازة.
أما الشباب، فعطلة الصيف فترة ذهبية لتأهيلهم مهنياً بشكل مبكر، ما يوفر عليهم كثيراً من وقت تعلم مهارات المهن في سوق العمل المستقبلي من جانب، وتقلل من احتمال تورطهم في اتجاهات العنف أو الجريمة، بحسب ورقة بحثية نشرتها مجلة «Journal of Public Economics».
وبإجراء قرعة عشوائية لـ12 ألف طالب من المدارس الثانوية في شيكاغو للحصول على فرص عمل صيفية مدفوعة الأجر، وقرعة مماثلة لـ6 آلاف طالب في فيلادلفيا، رصدت الدراسة نتائج المشاركين من حيث التورط في العدالة الجنائية، والخدمات الاجتماعية، والصحة السلوكية، والأداء التعليمي، والانخراط المدني، ووجدت أن المشاركة في برامج التوظيف الصيفي خفضت احتمال حصول المشاركين على سجل جنائي خلال 13 شهرًا بـ 3.4 نقطة مئوية (28%) في شيكاغو، و3.2 نقطة مئوية (18%) في فيلادلفيا.
هذا يعني أننا نستثمر في حماية شبابنا عبر مسار التعلم الترفيهي بفترة العطلة الصيفية، إضافة إلى فوائد أخرى، منها رفع مستوى الثقة بأنفسهم، وتحسين مهارات إدارة الوقت لديهم، وتوفير فرصة لبنائهم شبكة اجتماعية ومهنية.
الخبرة القابلة للتوثيق في السيرة الذاتية فائدة أخرى مهمة للشباب، إضافة إلى اكتشاف المجالات المهنية المحتمل تفوقهم فيها من سن مبكرة.
يبدو ذلك مصطدماً بثقافة جرى ترسيخها عبر وسائل الإعلام في عالمنا العربي، مفادها أن انخراط الطلاب في أنشطة مهنية بسن صغيرة يعد انتهاكاً لطفولتهم، وهو ما لا تؤيده الدراسات التي أجرتها الجامعات الغربية، فضلاً عن النموذج المقترح للاستفادة من العطلة الصيفية قائم على تأهيل الشباب طوعياً وبأجر رمزي، وبأساليب أقرب إلى المتعة والترفيه.
نحن بحاجة إلى التفكير من خارج صندوق المقررات الإعلامية السائدة، إذ قد تكون برامج التوظيف الصيفي للشباب حلاً فعالاً لمشكلة البطالة فيما بينهم مستقبلاً، وفقاً لنتائج 13 دراسة لتلك البرامج في 4 مدن كبرى في الولايات المتحدة، هي: بوسطن، وشيكاغو، ونيويورك، وفيلادلفيا، حسبما أوردت صحيفة «J-PAL North America».
وإذا كان لازماً تعليم الأطفال، وفق برامج كهذه، هو حمايتهم من الانخراط بالعنف والجريمة في شبابهم، وتعليم الشباب وفقها هو تأهيلهم مهنياً وزيادة ثقتهم بأنفسهم، فإننا لا نبالغ إذا وصفنا مسار التعليم بالترفيه في العطلة الصيفية بأنه مسألة أمن قومي وعربي.
وبقضاء العطلة الصيفية بالمشاركة في أنشطة رياضية مثل ركوب الدراجات، أو السباحة، أو رياضات المغامرة مثل التسلق والتزلج على الماء، مع تطعيمها بأغراض التعليم التلقائي، لا يكتسب الأطفال والشباب تجارب ممتعة ومثيرة فقط، بل يعززون أيضًا لياقتهم البدنية وصحتهم العامة.
وبإضافة مساهمة الأطفال والشباب في أعمال تطوعية محلية، مثل دور الرعاية أو العمل مع منظمات غير ربحية، يمكن لهذه التوليفة تقديم فرصة لمساهمة الأطفال والشباب في تحسين بيئتهم المحلية وتعزيز روابطهم الاجتماعية، فضلاً عن تطوير هواياتهم الشخصية.
إن العطلة الصيفية فترة مميزة في العام، تمنحنا الفرصة للاستمتاع بالحياة واستعادة النشاط والحيوية، وبدلاً من قضائها بشكل تقليدي، يمكننا استكشاف تجارب جديدة تساعد أطفالنا وشبابنا في النمو والاستفادة القصوى من مهاراتهم وإمكاناتهم.