كما أن للسنة فصولاً ومواسم، باتت على ما يبدو للكراهية مواسم أيضاً، يشتد خريفها من وقت لآخر، وكلما هبت عواصفها في بلد تتسلل منه إلى آخر، فنشاهد مظاهر الإساءة للمقدسات الإسلامية تعبر من مكان إلى مكان، ثم تهدأ قليلاً لتعاود الظهور؛ منطلقات هذه الإساءات مفهومة في سياقاتها، لكن مهم أن نعي كيف نتعامل مع هذه الكراهية؟
مؤخراً جاءت أزمة تدنيس المصحف وحرق نسخة منه في السويد صبيحة يوم عيد الأضحى، لتفتح الباب لمظاهر كراهية متجددة مماثلة في بلدان أخرى وكأننا أمام سباق لركوب موجة العداء وتسجيل موقف مضاد يسيء للمسلمين، وهي إساءات تتجاوز في آثارها وتداعياتها الواقع الأوروبي وتؤذي المسلمين في كل مكان.
غضب مطلوب
ردود الفعل الغاضبة على تواضعها في بلادنا العربية والإسلامية تجاه الإساءة للمقدسات أمر إيجابي جداً، حتى وإن قلل البعض من جدواها، فهي شعور شعبي محمود ومطلوب أيضاً، فهو يدلل على أن هذه الشعوب حية لم تمنعها تحدياتها الداخلية من الشعور العام بواقع الأمة والتعبير عن رفضها لإيذائها في مقدساتها.
فخ التطبيع
الغضب الشعبي المتواضع هذا يصنع جداراً عازلاً بين المسلمين واعتياد الإساءة، فيجنبنا الانزلاق في فخ التطبيع مع ظاهرة الإساءة للمقدسات الإسلامية وحالة الكراهية بحكم تكرارها وتشابهها، أو تعلل البعض بقصر تأثيرها ظاهرياً وسرعان تبخرها، لكن في حقيقة الأمر تأثير مثل هذه الأفعال يتبدد للأسف بالنسبة لاهتماماتنا نحن فقط بحكم ثقافة «الترند» الطاغية في أولوياتنا.
هذا التناسي من جانبنا لهذه الإساءات يوازيه على الجانب الآخر رسوخ لها كصورة نمطية لاستفزاز المسلمين والإساءة لمقدساتهم يلعب على وترها المتطرفون والباحثون عن الشهرة السياسية والإعلامية في الغرب واستثمارها في المواسم الانتخابية، حتى أصبحت مقدساتنا ورقة تُستخدم لدغدغة مشاعر اليمين المتطرف واستمالته في ظل تنامي حالة النزوح نحو الكراهية.
بالغضب وحده لا تهدأ العواصف
لا شك أن الغضب وحده وإن كان محموداً، إلا أنه غير كاف، نعم كانت هناك العديد من المواقف الرسمية عربياً وإسلامياً ترفض هذه الإساءات، لكن آن الأوان لتحويل هذه المواقف إلى خطوات عملية كضرورة حتمية في ظل تكرار ظاهرة الإساءة، للعمل على إرساء قواعد قانونية ودبلوماسية تجرم ازدراء المقدسات، وأن تجعلها مصونة بمعزل عن حريات مزعومة تمتهن في أغلب مظاهرها مقدسات المسلمين دون غيرهم.
فسبق وأن اعتمدت الأمم المتحدة اقتراحاً بجعل 15 مارس يوماً سنوياً لمكافحة «الإسلاموفوبيا» تزامناً مع ذكرى مذبحة المسجدين في نيوزيلندا، وسبق أيضاً أن اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن الإساءة للرسول الكريم لا تندرج ضمن حرية التعبير.
وهذا يظهر مدى أهمية الحراك السياسي والدبلوماسي للدول العربية والإسلامية، في إطار ترسيخ ثقافة نبذ الإساءة للمقدسات عموماً وتقنينها دولياً، حتى لا تصبح مقدسات المسلمين مجالاً للتلاعب بمشاعر المسلمين.
حرية تسع الجميع
ثم إن الإساءة للقرآن في السويد أو غيرها تأتي تحت مظلة قانونية تتعلق بحرية التعبير، فإذا كانت حرية التعبير هي المظلة بهذا الشكل، فأين استثمار مسلمي أوروبا أنفسهم لنفس المظلة، وحقهم في التعبير عما يصيبهم من أضرار نفسية ومجتمعية نتيجة الإساءة لمقدساتهم، وسعيهم في توضيح أخطار مثل هذه الأفعال على بنية المجتمع الذي هم جزء منه؟ خاصة في ظل الزعم اليميني في أوروبا بأن المسلمين يعيشون في عزلة وغير مندمجين في المجتمع.
فإن كان المسلمون في بلادنا العربية والإسلامية ربما ينتهجون مسارات الاحتجاج والمقاطعة، فالمسلمون في أوروبا مفتوحة أمامهم آفاق واسعة من الحريات من الطبيعي استثمارها والتحرك من خلالها إعلامياً وسياسياً ومجتمعياً وحقوقياً.
بالإضافة إلى استثمار هذه الأحداث للتعريف بالإسلام ومقدساته من خلال استخدام لغة خطاب تناسب هذه المجتمعات الأوروبية، ووسائل مختلفة تناسب فئاتها وطبقاتها، فالجهل جزء من الأزمة، والإنسان كما يقولون «عدو ما يجهل»، فكلما جهل الإنسان بمعرفة الإسلام وتعاليمه، كان أكثر تأثراً بخطاب الكراهية وربما أصبح متطرفاً مستقبلياً.
ومن هنا يجب على المسلمين في الغرب السعي ضمن الإطار المجتمعي وإيجاد مبادرات مجتمعية تصنع التقارب والمشاركة، وهذا التقارب يصنع المعرفة عن قرب بالاحتكاك المباشر، وبالمعرفة تذوب حواجز التوجس ورهاب الإسلام، وبمرور الوقت وترسيخ التشارك يتحول المجتمع نفسه إلى مدافع عن المسلمين ورافض لازدراء مقدساتهم.
وهذه التحديات تضع المؤسسات الإسلامية في الغرب أمام مسؤولياتها، ولا بد من التعامل معها كدافع لمزيد من الاقتراب من مجتمعاتها ومحيطها غير المسلم من خلال مضاعفة أنشطة المساجد وفعاليات «الأبواب المفتوحة» التي تنظمها المساجد والمراكز الإسلامية وتستضيف غير المسلمين للتعريف بالإسلام وسماحته وكيف ينظر لغير المسلم، والإكثار من الأنشطة المجتمعية التي تعود بالنفع للمجتمع ككل وليس المسلمين وحدهم، وإمكانية إيجاد أنشطة صيفية لأبناء الأحياء المجاورة للمراكز الإسلامية.
يمكن أيضاً لمسلمي أوروبا السعي ضمن الأطر السياسية والقانونية للحيلولة دون تعميم مثل هذه الإساءات أو التطبيع معها باعتبارها تندرج ضمن حرية التعبير، والعمل على لفظها من الحراك السياسي وعدم استثمار الإساءة لمشاعر المسلمين كبوابة للعبور إلى الشهرة وتسجيل حضور سياسي وإعلامي كما يفعل بعض السياسيين لا سيما في مواسم الانتخابات.
نزوح جماعي
حالة النزوح الجماعي نحو «الإسلاموفوبيا» في أوروبا يجب أن يقابلها عمل دؤوب يحول دون تفشي الكراهية في هذه المجتمعات ومنع آثارها من أن تصبح مألوفة في الشارع، وذلك عبر الحضور الإيجابي للمسلمين في المشهد العام سياسياً واجتماعياً، والمشاركة الفعالة كمكون مؤثر وكتلة تصويتية يراعي الساسة وزنها.
ترجمات معاني القرآن
ومن مظاهر التعريف بالإسلام ووسائل الرد على الإساءات توزيع ترجمات معاني القرآن الكريم، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها من الكتب والمؤلفات التي تقدم صورة مبسطة لحقيقة الإسلام، بحيث يتوفر هذا الحد الأدنى من المعرفة بالإسلام، وهذا الدور يقع على عاتق المؤسسات الكبرى في بلادنا.
بُعد آخر مهم أيضاً فيما يخص دور المثقفين والأكاديميين المسلمين في الغرب ودورهم في الاحتكاك بالمجتمع الأدبي والثقافي الغربي وتحريك المياه الراكدة في التماس مع واقع المسلمين والإساءة لمقدساتهم، واستمالة الأكاديميين والمثقفين للوقوف ضد مظاهر الكراهية والإساءة للمقدسات على اختلافها.
الإعلام.. اللسان الغائب
من الأدوات التي لها أهمية كبيرة إزاء مثل هذه الإساءات هي الإعلام، وهو هنا على قسمين؛ أولهما الإعلام المعبر عن المسلمين في الغرب، وهو متواضع بلا شك على تنوع وسائله، بل غائب في حقيقة الأمر، فعلى ما يبدو لم يدرك بعد مسلمو أوروبا أهمية الإعلام كونه جسراً يربط بينهم وبين مجتمعاتهم الغربية التي يعيشون فيها، وبين باقي المسلمين في الدول العربية والإسلامية.
القسم الآخر من الإعلام هو الإعلام العربي والإسلامي، وللأسف في أغلبه يتعامل مع قضايا الأقليات المسلمة من منطلق مناسباتي مؤقت وقت حدوث الأزمات أو النجاحات اللافتة فقط، ثم سرعان ما يتبدد هذا الاهتمام وينصرف إلى قضايا أخرى بحكم طغيان الخبر.