ذكّرَنا رواد التواصل الاجتماعي بمقارنة بين ياباني ومصري أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان كل منهما مبعوثاً إلى الغرب للدراسة على حساب حكومته؛ الياباني ياتارو أيواساكي قضى 4 سنوات شاقة لينقل إلى بلاده سر صناعة السيارات، واستطاع بدعم الإمبراطور إقامة مصنع صغير، توسّع فيما بعد ليكون مؤسسة كبرى ذات اسم عالمي يتردد في أرجاء الأرض، اسمه «ميتسوبيشي»، أما المصري قاسم أمين فعاد بعد 4 سنوات ليشغل الناس بموضوع المرأة وسفورها وتحررها.
اليابان تتقدم على طريق التصنيع والإنتاج والمعرفة دون أن تغيّر معتقداتها أو تُقصي فريقاً من شعبها عن العمل والمشاركة، أما الشرق الإسلامي فما زال «يلتّ ويعجن» فيما يسمى تحرير المرأة، ويُقصي الأكثرية الساحقة عن الإسهام في الحياة العامة وصناعة المصير، وكأن الأوطان الإسلامية حرة، والشعوب الإسلامية حرّة، والمرأة المسلمة وحدها هي المستعبدة!
استطاع اليابانيون منذ قرن أو أكثر، وفي ظل هزائمهم العسكرية المريعة على يد الغرب أن ينهضوا ويؤسّسوا قوة صناعية علمية، مع أن بلادهم لا تمتلك ثروات معدنية أو إمكانات إستراتيجية، أما النخب في بلاد المسلمين فما زالت تلهو بالثرثرة حول المرأة وما يتعلق بها، وشيطنة الأكثرية وتجريمها؛ لأنها تريد الحرية والتعبير عن إسلامها وهويتها، حتى صارت حال البلاد لا تسرّ، مع أن لديهم ثروات ضخمة.
كان العمل هو الشغل الشاغل لليابانيين في إطار المشاورة والمحاورة، أما في بلادنا العربية الإسلامية فكان الجدل الفارغ أو العبث اللاهي على مدى عقود طويلة، في ظل استبداد خشن تقوده النخب المسماة بالعلمانية، بدعوى السعي إلى التقدم والتطور، ولم يحدث تقدم أو تطور ذو قيمة!
اليابان تتقدم دون أن تغيّر معتقداتها أو تُقصي فريقاً من شعبها
أدى المصطلح دوراً خطيراً؛ حيث وظفه العلمانيون بمهارة لإدانة المسلمين، وتحقيق غاياتهم وأهدافهم في التمكين والتسلط والإقصاء والاستئصال.
العلمانية في أبسط تعريفاتها فصل الدين عن الدولة، وقد نشأت في الغرب نتيجة لتحكم الكنيسة في أقدار الناس حكاماً ومحكومين، واستخدم الكهنة صكوك الحرمان والغفران لإخضاع المجتمعات الأوروبية، والهيمنة عليها، ودارت صراعات دموية عنيفة بين الأوروبيين منذ القرون الوسطى حتى القرن الثامن عشر، انتهت إلى التفاهم البراجماتي، وتقليل دور الكنيسة في الحياة العامة، والتوافق على الأهداف التي تهيئ للتعايش، والتشارك في نهب البلاد المستضعفة وتحويلها إلى أسواق لمنتجاتها بعد احتلالها، وفرض الثقافة الغربية عليها، وتشكيل النخب المتغربة.
نجح الغرب في صناعة النخب العلمانية الموالية في بلاد المسلمين، وصار العلماني المسلم -إن صح التعبير- يقبل التعايش مع أصحاب الأفكار المادية والطائفية كافة، ولا يقبل التعايش مع الإسلام أبداً، وتضم النخب العلمانية في البلاد الإسلامية: الشيوعيين والبعثيين والقوميين والناصريين والماسون والبهائيين والقاديانيين والطائفيين والشواذ، وأشباههم، وتتوحد هذه النخب التي تتقلد معظم الوظائف المهمة والمناصب الحساســــة داخل البلاد الإسلامية، على رفض الإسلام منهجاً وفكراً وتصوراً وقيماً، ومع أنها ترفع شعار قبول الآخر، فهي تقبل كل الملل والشرائع والمعتقدات والنظريات، ولا تقبل بالإسلام!
توظف النخب العلمانية بعض المصطلحات الأخرى التي لا تكشف عن حقيقة انتمائها الفكري أو العملي، لتضفي على نفسها صورة براقة مقبولة لدى الجمهور الإسلامي؛ فهي مثلاً تستخدم مصطلحات من قبيل التقدمية، والثورية، والنضالية، والطليعية، والتنويرية، وتطلق على المسلمين في المقابل مصطلحات منفرة وقبيحة من قبيل: الرجعية والظلامية والماضوية والتأسلم والتطرف والتشدد والتخلف والجمود، ثم تصم الإسلام والمسلمين بصفة «الإرهاب»!
مصطلح غامض
«الإسلاميون» مصطلح غامض وفضفاض أطلقه العلمانيون على المسلمين الذين يرون الإسلام عقيدة إيمانية ومنهج حياة، سواء كانوا جماعات دعوية، أم أحزاباً ترى الإسلام طريقاً للتطور والنمو والبناء، أم أفراداً يؤمنون بالتصور الإسلامي من كتَّاب ومفكرين وإعلاميين وغيرهم.. ثم إن العلمانيين يلحقون بهذا المصطلح مجموعة أخرى من المصطلحات للتنفير أو التمييع أو التسفيه، مثل: الإسلام السياسي، والتيار الديني، ودعاة الدولة الدينية، وتيار التأسلم، والجماعات المتشددة، فضلاً عن الأوصاف الهجائية التي لا تخفى! ويتجاهلون أن الشعوب الإسلامية لا تقبل بغير الإسلام بديلاً، مهما كان الترغيب والترهيب، وأن قرابة 90% من المسلمين، مع ضعفهم وهوانهم، لا يفرطون في إسلامهم لأنه جلدهم الحساس الحي، حتى لو كان كثير منهم يجهل معطياته وتصوراته.
النخب العلمانية توظف بعض المصطلحات التي تخفي حقيقة انتمائها الفكري
الإسلاميون -وفقاً للتسمية العلمانية- ضعفاء بشكل عام، متفرقون متشرذمون، فضلاً عن تعرضهم للاضطهاد من جانب المستبدين والطغاة الذين يرون الإسلام خطراً داهماً على وجودهم ومكاسبهم، ولذا لا يملكون طلاقة الحركة في المجتمع والمشاركة في بنائه اجتماعياً أو اقتصادياً أو تجارياً أو علمياً أو ثقافياً أو فنياً، تلاحقهم قيود قانونية واستثنائية، وتحاصرهم دعاية مسمومة تشيطنهم، وتسند إليهم الفشل الذي تعيشه الشعوب، وهم لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؛ لأنهم محرومون من العمل العام، أو زوّار دائمون إلى الغرف المظلمة، يقبعون فيها كثيراً أو قليلاً حسب الأحوال!
ونضيف إلى ذلك إنشاء بعض الجماعات التي أشرفت عليها الأجهزة الشيطانية العالمية ووكلاؤها المحليون بتقديم أسوأ صورة للإسلام («داعش» نموذجاً!)؛ فهو يصور من خلالها على أنه دين الدم والتوحش وتخريب العمران وتدمير الجامعات وبشاعة الغريزة البدائية في التعبير عن نفسها!
أقلية إقصائية
يمثل العلمانيون أقلية ضئيلة، لكنهم يتحكمون في معظم الأماكن الحساسة في البلاد الإسلامية، وتستعين بهم الحكومات المستبدة في الوزارات والإدارات لقمع الأكثرية الإسلامية الساحقة، وتمنحهم امتيازاً خاصاً في العمل والإدارة ونشر أفكارهم المعادية للإسلام والمحرّضة على المسلمين، خاصة في المجالات المؤثرة: الإعلام، الصحافة، التعليم، الثقافة، الفنون، السينما، الدراما.. بينما يحرم الإسلاميون حرماناً شبه تام من هذه المجالات، ومن تبدو عليه علامات مبشرة في أي مجال منها يتم استئصاله أو إقصاؤه على الفور؛ فالعلمانيون إقصائيون واستئصاليون ولا يخجلون من التصريح بإقصاء أي إسلامي من الحياة العامة، والشواهد على هذا كثيرة.
الحكومات المستبدة تستعين بالعلمانيين في الإدارات لقمع الأكثرية الإسلامية
وبالطبع في ظل مثل هذا الفكر الاستئصالي الإقصائي الذي يدعي أن العلمانية لا تتدخل في الدين، ولا تمنع أحداً من ممارسة شعائره، يصعب أن يتحدث أحد عن التعايش، لسبب بسيط؛ وهو أن الفكر العلماني الكاذب في بلاد الإسلام لا يتسامح أبداً مع الإسلام ولا يقبل بالآخر الإسلامي، وأيضاً لأنه يستند في وجوده إلى قوة خشنة غاشمة تحرسه وتغذيه وتتيح له فرصة النمو الاستثنائي في بيئة الاستبداد.
هشاشة فكرية
ولو أن هذه القوة لم تكن موجودة، لما استطاع البقاء فضلاً عن النمو، ومن هنا شاعت المقولة الخاصة بالعلمانيين: «إذا كسبنا الانتخابات فنحن مع الديمقراطية، وإذا خسرناها فنحن مع الاستبداد».. إنهم موقنون أن الانتخابات لن تأتي بهم، وقد جربوا الانتخابات الحرة التي جرت قبل سنوات في بعض الدول ولم يحصدوا مقاعد ذات قيمة؛ لأن المجتمع يعلم مدى هشاشتهم الفكرية وقدراتهم الضحلة، ووعودهم الزائفة، وقواعدهم الضعيفة؛ لذا فشلوا فشلاً ذريعاً في تطوير بلادهم إلى الأفضل، ولم يبق من ممارساتهم إلا الدم والدموع، وتأكيد أن الإسلام كان منصة تصويبهم الخطأ، دون أن يصوّبوا نحو الفقر والجوع والتخلف والضعف والجهل والمرض.
لقد حكم الشيوعيون العراق في عهد عبدالكريم قاسم، وشطبوا الإسلام من بغداد، عاصمة دولة الخلافة الإسلامية، وأقاموا مجازر دموية في شوارعها للأبرياء، ولم يصنعوا ديمقراطية، ولم يقيموا بناء حضارياً، وأثبتوا بالدليل الحي أن العلمانية في بلادنا لا تصنع حضارة، ولا تنشئ مدنية.
وفي دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية، دمر حزب البعث العلماني عام 1982م مدينة حماة بالقوات البرية وسرايا الدفاع، ودفن قرابة 40 ألفاً من المسلمين الأبرياء أحياء، وفي عام 2012م دمر معظم المدن السورية، بالقصف الجوي والمدفعي، وقتل قرابة مليون سوري بريء بالسلاح الكيماوي، والبراميل المتفجرة، وفرّط في استقلال الدولة لحساب القوى الكبرى والصغرى التي جاءت بجيوشها ومليشياتها الجرارة.
وفي الستينيات والسبعينيات، أعلن رئيس تونس ثم تلميذه الذي خلفه من بعده حظراً على الإسلام، بمنع الصوم في رمضان، وفرض السفور، وإباحة الدعارة والخمور، وفرَض دخول المساجد ببطاقة ممغنطة!
الأمل في التعايش إذا سقطت العصا الغليظة التي تحمي طرفاً وتهوي على رأس الآخر
وقبل هؤلاء وغيرهم كان مصطفى كمال أتاتورك، قد أعلن العلمانية في دولة الخلافة العثمانية بعد أن ألغى الإسلام، وأغلق المدارس الإسلامية وشطب الشريعة الإسلامية وأصدر قانون القيافة (منع العمامة والطربوش والحجاب)، وحرّم اللغة العربية وجعل الأذان بالتركية، وقبل ذلك وبعده علق علماء الإسلام على المشانق حتى بدت جثثهم كالأراجيح، على حد قول مؤلف كتاب «الرجل الصنم»! ولم يتردد خلفاء أتاتورك في إعدام الزعماء المسلمين، والانقلاب على الحكومات التي تحظى بثقة الشعب التركي المسلم، ولولا ربط الاتحاد الأوروبي عضوية تركيا بالانتخابات النزيهة الشفافة، لما استطاع أي حزب إسلامي أن يصل إلى المجلس التشريعي أو الرئاسة!
توافق مستحيل
فالبلاد العربية لا يساعدها الاتحاد الأوروبي على الانتخابات النزيهة، ويرى أن من مصلحته الاقتصادية وغيرها أن تبقى النخب العلمانية متحكمة ومستبدة، ومع ذلك جرت محاولات عديدة للتوافق من أجل التعايش بين العلمانيين والمسلمين، وأبرزها فكرة المؤتمر القومي الإسلامي الذي انعقد في بيروت أكثر من مرة، بمبادرة من بعض الشخصيات الإسلامية والعلمانية، لكن جلسات المؤتمر لم تسفر عن نتيجة ذات أثر، ربما كان الأثر الوحيد إنشاء علاقات شخصية بين بعض الأعضاء، ولكن الإقصاء أو الاستئصال للإسلاميين ما زال مستمراً.
في «واشنطن بوست»، بتاريخ 14 يناير 2020م، كتب عز الدين فشير (علماني) مقالاً بعنوان «العلمانيون والإسلاميون يحتاجون للتوافق لإنهاء حربهم الأهلية»، أشار فيه إلى أن الصراع بين الطرفين لم يسفر إلا عن ترسيخ الحكم السلطوي، ويرى أن الخلافات بينهما حقيقية وعميقة، وذكر أن تحالفهما مستحيل، وأن إطار التعايش السلمي يسمح لهما بالخروج من الدائرة الصفرية، وهذه خطوة أولى ضرورية لإرساء قواعد الحكم الديمقراطي في الشرق الأوسط، كما يقول، وقد تذكرت معنى مقولة في فيلم «طيور الظلام» الذي كتبه علماني يهجو المسلمين ويجمّل صورة الشيوعيين، يقول العلماني للمسلم: «اثنان من الذئاب لا يجتمعان في جحر واحد!».
من المؤكد أن هذه المقولة خاطئة، فإذا كان الشيوعي ذئباً، فإن المسلم في القرن العشرين وما بعده أضعف من أرنب! ولكن الأمل في التعايش، وعودة كل طرف إلى حجمه الطبيعي، يكمن في سقوط العصا الغليظة التي تحمي طرفاً، وتهوي على رأس الآخر، ولله عاقبة الأمور.