«تحرير المرأة» عبارة رنانة دوى صداها في العالم أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث انتشرت في الغرب وانتقلت بالتبعية إلى الدول الإسلامية التي كانت أرضاً خصبة لنشر لتلك الدعوات، وتسخير المروجين لها.
وكان الإسلام بمثابة نقطة الانطلاق التي بدأ مروجو تلك الدعوات منها، وتجسد ذلك المعنى جلياً في خلع إحدى المروجات لتحرير المرأة لحجابها وطرحه أرضاً، لتتحول تلك الدعوات من تحرير المرأة الفعلي مما كانت تعانيه في الغرب من عدم المساواة والتحيز الجنسي والإهانة، إلى تجريدها من كل ما منحه الإسلام إياها من تكريم وتمييز، ولعلنا في ذلك المقال نلقي الضوء على بعض من تلك الشبهات التي يروجها الحداثيون حول تحرير المرأة ونرد عليها.
ومن الكلمات المعبرة عن ذلك ما سطره الكاتب محمد محمد حسين في كتابه «حصوننا مهددة من داخلها»: «وفي الوقت الذي يتجرع الغرب فيه آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها، كان بعض كتَّابنا ومفكرينا ينادوننا بأن نأخذ الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشكلات اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزًا عنيفًا أفقده استقراره واتزانه، وعرض سلامته وكيانه لأشد الأخطار».
ميلاد الأنثى بين العبوس والاستبشار
كان العرب قبل الإسلام يدفنون البنات أحياء في صحراء مكة الحارقة عقب ولادتهن مباشرة؛ فيما عرف بـ«وأد البنات».
وجاء الإسلام ليجرم ذلك، بل وينتقد العبوس عند قدوم الأنثى في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (النحل).
بل لقد جعل الله الأجر الجزيل لمن يحسن تربية ابنته ويكرمها، وذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولدت له ابنة فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها -يعني الذكر- أدخله الله بها الجنة»، فهل هناك تكريم أعظم وأجل من تكريم الإسلام للفتاة منذ ولادتها؟!
حق المرأة في التعليم
من الشبهات التي يروجونها دعاة تحرير المرأة أن الإسلام منع المرأة من حق التعليم والمعرفة، وهذا ينفيه التوجيه الرباني لأمهات المؤمنين بنقل العلم كاملاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (الأحزاب: 34).
وكانت أم المؤمنين حفصة بنت عمر تتقن القراءة في عهدها، بينما لم يكن يجيدها الكثير من الرجال، واشتهرت بالعلم والفقه والتقوى، حتى إن عمر بن الخطاب كان يستمع لآرائها الفقهية في الكثير من الأمور.
ومن دلائل حرص الإسلام على تعليم المرأة كذلك إجازة أبي حنيفةَ النّعمان تولّي المرأة القضاء، فهل تتولى القضاء أمية؟!
عمل المرأة.. فضل وليس جبراً
لم يفرض الإسلام على المرأة العمل لتعول نفسها أو أسرتها، بل جعل الإنفاق والرعاية مسؤولية الرجل، لكنه كذلك لم يمنعها من العمل إن احتاجت إلى ذلك، يقول تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105).
وخير مثال على قبول الإسلام لعمل المرأة كون الصحابية رفيدة الأسلمية أول طبيبة وممرضة في الإسلام، وكانت قارئة وكاتبة، وشاركت في علاج المصابين في غزوتي «الخندق» و«خيبر»، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن ببناء خيمة داخل المسجد النبوي لتقديم الرعاية الطبية للمسلمين.
وكذلك اشتهرت الشفاء بنت عبدالله العدوية بعلمها وعملها، ولقبت بـ«الشفاء» لشهرتها في رقية المرضى وعلاجهم من مرض «النملة» (مرض جلدي مؤلم).
وبعد دخولها الإسلام استأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستمرار في الرقية من النملة فأذن لها، وقال: «ارقي بها وعلميها حفصة» (رواية ابن منده).
ومما سبق نرى أن الإسلام لم يفرق بين المرأة والرجل في العمل إلا لصالحها، وبما لا يؤثر على مهمتها الأولى والأساسية وهي تربية النشء ورعايتهم والحفاظ على أسرتها.
حجاب المرأة.. حجاب للعقل أم حجب للفتنة؟!
هل المقصود بعبارة «تحرير المرأة» هو خلعها للفضائل وإلقائها للعفة؛ أم تحريرها مما يجعلها سلعة رخيصة تُستغل لتحقيق مطامع الرجل وشهواته؟!
لقد روج المحدثون لفكرة أن الحجاب حجاب للعقل وليس للرأس!
ولعل ما يدحض ذلك الكلام أن التاريخ الإسلامي زخر بعالمات وفقيهات مسلمات لم يمنعهن الحجاب من طلب العلم ولا من العمل، بل لقد تفوقن على الرجال وهن يرتدين الحجاب، نذكر منهن:
آمنة بنت خجو، وهي عالمة مشاركة في الحديث والفقه والتصوف، وكانت أديبة مغربية ذات شأن، وكانت حريصة على تعليم بنات جنسها العلم الفقهي.
وكذلك العالمة أَمَةُ اللطيف بنت ناصح، وقد وصفها الإمام ابن كثير: «الشيخة الصالحة العالمة».
ومنهن أيضاً العالمة شهدة الكاتبة، وهي عالمة مسلمة من أهل السُّنة والجماعة ومحدثة وكاتبة وخطاطة كذلك.
وهناك نماذج كثيرة لنساء مسلمات برعن في كافة المجالات ولم يمنعهن الحجاب من طلب العلم ولا من العمل والتميز.
حرية المرأة.. رفع قدرها كإنسان لا امتهانها كسلعة
أعطى الإسلام المرأة حريتها كاملة لم ينتقص منها شيئاً، فهي حرة في اختيار مجال دراستها وعملها، ولها مطلق الحرية في اختيار الزوج الذي ترضاه، ولا يحق لأحد إجبارها على زوج معين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن».
وكذلك فقد منح الإسلام المرأة ذمة مالية مستقلة، فلها الحق في البيع والشراء والحق في الميراث؛ وكذلك لها صداقها كاملاً، وهي تتصرف في أموالها كيفما تشاء دون إجبار أو توجيه من أحد.
ولعل خدعة تحرير المرأة التي روج لها المستشرقون أدحضها الباحث الأمريكي المتخصص في الشؤون النسوية د. هنري ماكو الذي وصف تحرير المرأة بقوله: «تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد؛ خدعة قاسية أغوت النساء الأمريكيات وخربت الحضارة الغربية».
استوصوا بالنساء خيراً.. تكريم وتشريف
جاء الإسلام حاملاً مشاعل الحرية للبشر جميعاً؛ وفي القلب منهم المرأة التي منحها كامل حقوقها؛ ورفع قدرها وكرمها كابنة وزوجة وأُم، ولقد نزلت سورة كاملة في القرآن الكريم تحمل اسم «النساء».
بل يكفيها تكريماً وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجال: «استوصوا بالنساء خيراً».
فحرية المرأة تبدأ من التزامها بكل ما فرضه عليها الإسلام من فرائض تحافظ عليها وترقى بها من عرضها كسلعة رخيصة لسد الغرائز والشهوات إلى إنسان مكرم لها كل الاحترام والتقدير، ومتى حادت المرأة عن نهج الإسلام ابتعدت بالتبعية عن مكانتها العظيمة وانحدرت إلى قاع سحيق ينأى بها الإسلام أن تنزلق في قاعه.