مرّت خمسون سنة ونحن نُنْذر ونحذّر، نقول: إننا في حرب مع أمكر وأخسّ البشر، فهل رأيتم من يعيش في الحرب مثل عيشه في السلم؟ هل رأيتم من ينفق فيها على السرف والترف والكماليات، بل على ما لا صلة له بالكمال، ما فيه إلاّ النقص والعار؟ ننفق ولا نزال ننفق! نصبّ في هذه البالوعة ما لو وفّرناه لكان لنا منه جيش ينقذ فلسطين ويخلّص كل بلد مسلم يعاني مثل الذي تعاني فلسطين. طالما قلت للناس: إن هرّة مريضة تموء في الشارع تحت شبّاكك تطرد من عيونك النوم، فكيف تنام ومن إخوانك العرب المسلمين من يئنّ ويشكو ويمزّق من بكائه سكون الليل؟ من يدق جارُه مسماراً في جداره يفيق مذعوراً ويتعذر عليه المنام، فكيف تنام وفي الأرض عرب مسلمون تدكّ المدافعُ دورَهم وتهدم بيوتَهم، مدافع أصداؤها تملأ الدنيا، أفلا تسمعها؟
خمسون سنة ونحن نقول: إن فلسطين أمانة في عنق كل عربي، عقيدة في قلب كل مسلم، فأنقذوها؛ أنقذوا المسجد الأقصى مسرى نبيّكم، قبلتكم الأولى. لا تنفقوا قرشاً بعد نفقتكم ونفقة عيالكم إلاّ على فلسطين، لا تبذلوا جهداً بعد الضروري من جهودكم لتأمين معيشتكم إلاّ على فلسطين، إن اليهود يعملون على سرقتها كافّة فاعملوا أنتم على استردادها كافّة، قاتلوا مجاهدين في سبيل الله لا لمجرد استرداد الأرض، فالأرض تُسترَدّ بالجهاد الذي معه عون الله، ولكن عون الله لا يأتي لمجرد القتال للأرض. لا تيأسوا فإنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون.
لقّنوا أولادكم مع حليب الأمهات وجوب الجهاد لاسترداد فلسطين، علّموهم كلمة «فلسطين» مع كلمة «بابا» و«ماما»، فإذا كنا نحن -مع الأسف- جيل الهزيمة لبُعدنا عن ديننا واختلافنا في أمرنا، فسيظهر منهم جيل النصر، ولو بعد خمسين سنة أو مئة سنة. أما لبثَت القدس بأيدي من كانوا أقوى من اليهود نحواً من مئة سنة؟ فما احتاج استردادها إلا لمَن يطوي راية الجاهلية وينشر راية الإسلام، ويرمي السيف الذي استعاره من الكافر ويضرب بسيف محمد، ويدَع دعوة الباطل ويَدْعو بدعوة الحقّ. إن نسيتم فاقرؤوا تاريخ عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، الذين قاموا في زمان كنّا فيه أكثر انقساماً وأشدّ اختلافاً؛ كان في سورية وحدها عشر حكومات إسلامية وصليبية، كانت حماة دولة وشَيْزر دولة، كان في صَرخد (وهي قرية في جبل الدروز) دولة! فلما جاءت دعوة الإسلام محت دول الباطل، دول الضعف والانقسام، وأقامت دولة الوحدة تحت راية التوحيد. لقد أضعنا أياماً كثيرة وفرصاً كثيرة، ولكن لا يزال تدارك الأمر ممكناً.
تقولون: بماذا؟ بتغيير هذه الحال. تقولون: كيف نغيّر هذه الحال؟
لقد شرح الله لنا القانون: {إنّ اللهَ لا يُغيّر ما بقَومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسِهم}، فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ هل طهّرناها من أوضار الشبهات وأدران الشهوات؟ هل بدّلنا بتفرّقنا اجتماعاً على كتاب الله؟ هل سددنا آذاننا عن وسواس الشيطان من الإنس ومن الجانّ وفتحناها لنداء الرحمن؟
أمرَنا الله أن نُعِدّ السلاح للمعركة فقال: {وأعِدّوا لهُم ما اسْتَطعْتُم مِن قُوّةٍ}، فلا بد من القوّة ولا بد من السلاح، ولكن هل نُعِدّه لأن النصر مقرون دوماً وحتماً بالسلاح؟ لا، بل للإرهاب: {تُرْهِبونَ بهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكم} {وما النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ اللهِ}، وأنزلَ الله يوم بدر ملائكة، ولكن للتطمين: {ومَا جَعَلهُ اللهُ إلاّ بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكم} لا للنصر فالنصر من الله، مع الملائكة ومن غير أن تنزل ملائكة، فاطلبوه منه بعد استعدادكم له.
هذه عقيدة المؤمن وهذا تفكيره وهذه نفسيته، يعمل كل ما يقدر عليه ولكن لا يعتمد عليه وحده، بل على قوة من آمن به ووحّده التوحيد الكامل وجاهد في سبيله.