هذه جوانب تبرز تعدد ملامح شخصية القرضاوي وقد كتب كثيرون حولها، ولكنني في هذه الإطلالة السريعة أقدم جانباً آخر لا يقل أهمية إن لم يزد على تلك الجوانب المشرقة، ألا وهو أثر الشيخ العلاَّمة القرضاوي في الشباب المسلم، ودوره الكبير في ترشيد الصحوة الإسلامية، التي انطلقت مع ما يسمى جيل السبعينيات في مصر، ثم انطلقت إلى بلاد إسلامية أخرى كالجزائر، ثم امتدت بعد ثورة الاتصالات لتشمل كل بلاد العالم الإسلامي، بل والغربي أيضاً.
فقد عرفت الشيخ من كتابه الأشهر “الحلال والحرام في الإسلام”، وكتابه “الإيمان والحياة” قبل أن ألقاه، ثم كان اللقاء الأول في “مخيم الإخوان المسلمين” في موسم حج 1975م، وكان حديثاً حول لحية الشيخ، لأنه ذهب في كتابه “الحلال والحرام” إلى عدم وجوب اللحية وتأكيد سُنيتها فقط، وكنا نحن الشباب نتشدد وقتها في مسائل الهدى الظاهر، وسألته: ها أنت ملتح، رغم أنك ذهبت في كتابك إلى عدم وجوبها؟
فنبهني إلى أن القول بعدم الوجوب وأنها سُنة مؤكدة لا يعني تركها كسُنة أو عدم الاهتمام بها، فكان درساً لي استفدت به في طلبي للعلم وفي سلوكياتي في حياتي وأسلوبي التربوي.
إلا أن أخي د. حلمي الجزار ذكرني بأن الشيخ زارنا في صيف عام 1974م، في المعسكر الإسلامي الثاني للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة، وألقى محاضرة في كلية الحقوق، حضرها آلاف الشباب من الجنسين، عنوانها “دور الشباب المسلم في خدمة الإسلام”، وتعلمنا منها أن واجبنا نحو الإسلام يتلخص في ثلاث كلمات: العلم بالإسلام، العمل بالإسلام، العمل للإسلام.
وكانت للشيخ محاضرة أخرى أثرت في أجيال متتالية بعنوان “جيل النصر المنشود.. مواصفاته وخصائصه”.
من معسكرات الجامعة إلى الجماهير
لم يقتصر احتكاك الشيخ القرضاوي بالشباب في معسكراته الصيفية، بل قدمه الشباب إلى الجمهور العام الذي لم يكن يعرفه آنذاك –بسبب عمله بالتدريس في قطر– وذلك من خلال دعوته لإلقاء خطبة العيدين في ميدان عابدين بالقاهرة، بدءاً من عام 1976 تقريباً.
كان مئات الآلاف يصلون معنا في ميدان عابدين، ووصل العدد قبيل اغتيال السادات إلى أكثر من نصف مليون، ضاق بهم ميدان عابدين على اتساعه، وبذلك ازداد حضور الشيخ وتأثيره، وانتقل من رحاب معسكرات ومدرجات الجامعات إلى الجمهور العريض الواسع؛ ما دفع الكثيرين لاستضافته في ندوات ولقاءات بالمحافظات المختلفة، حيث انتشرت وقتها أحاديث أسبوعية ينظمها شباب الجامعات بالتنسيق مع “الإخوان المسلمون” الذين بدؤوا بعقد حديث الثلاثاء أسبوعياً في مسجد الخلفاء الراشدين في ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة، وسرعان ما انتقلت الفكرة إلى بقية المحافظات.
ظواهر صاحبت الصحوة الإسلامية
حينما نتحدث عن أثر الشيخ القرضاوي في الشباب لا بد من الإشارة إلى أهم الظواهر التي كانت تشهدها مصر في السبعينيات وانتقلت بعد ذلك إلى بقية البلاد العربية في الثمانينيات، وبعد ذلك انتشرت في العالم الإسلامي، بل والعالم كله، وما زالت تداعياتها حاضرة حتى اليوم، أهم هذه الظواهر:
1- ظاهرة الغلو في التكفير:
وهذا هو المصطلح الذي صكه الشيخ في محاضراته، ثم أخرجه في كتيب صغير بالغ الأهمية، وكنا نحن نسمي الظاهرة بالتكفير دون إضافات، ويدل الاسم على حرص الشيخ على الدقة والخلفية الفقهية والأصولية في تحديد مدلول الكلمات، فالتكفير قائم وموجود؛ (فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) (التغابن: 2)، ولكن الخطير هو الغلو فيه، ولقد كان للكتيب الصغير المركز في ظاهرة الغلو في التكفير أثر أكبر من البحث المتعمق “دعاة لا قضاة” لسهولة العرض وعدم الخوض في الآراء الفقهية المتشعبة وتوجهه إلى الجمهور والشباب، وليس إلى أعضاء جماعة الإخوان فقط، فضلاً عن قيام صاحبه بشرحه في عدة محاضرات وندوات والرد على الأسئلة المتولدة عن قراءاته.
2- ظاهرة العنف لدى الشباب المسلم:
وكان هذا العنف إما تطبيقاً خاطئاً لواجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، أو منهجاً حركياً؛ سعياً للتغيير والإصلاح عبر “حرب العصابات” التي اقتنع بها فصيل من الشباب، أو الإعداد لانقلاب عسكري يطيح بالسلطة الحاكمة مرة واحدة، وقد كان للشيخ أثر كبير في توضيح كافة القضايا المتعلقة بهذه الظاهرة.
فمن الناحية الفقهية، أوضح الضوابط الشرعية لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الناحية المنهجية الحركية، شرح في محاضراته ثم في كتبه وبحوثه المنهج الصحيح للإصلاح والتغيير استقاء من سُنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب كثيراً لترشيد سلوك الشباب مثل كتابه “من أجل صحوة راشدة.. تجدد الدين وتنهض بالدنيا”، وبحثه الآخر بعنوان “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم”، الذي كان بحثاً أعده لإلقائه في المؤتمر السنوي لرابطة الشباب المسلم في أمريكا الشمالية، وهذا دأب الشيخ أن يستجيب لحاجات الشباب ويلبي متطلبات الواقع.
3- ظاهرة الصحوة الإسلامية:
التي تمثلت في أبرز معالمها في الإقبال على التدين ونزوع كثير من الشباب إلى الجرأة على الفتيا، والقول على الله، والتصدي للاجتهاد بغير ضوابط.
وهنا كان للشيخ –حفظه الله– دور كبير في ترشيد الصحوة ورسم الأولويات الدقيقة أمام الشباب وضبط المفاهيم الشرعية ووضع الراغبين في العلم الشرعي أمام مسؤولياتهم، وإيضاح كيفية التعامل مع العلوم الشرعية ومصادرها الرئيسة، ولهذا صنف كتابيه “كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟”، و”وكيف نتعامل مع السُّنة النبوية؟”.
مساره العلمي
وفي تصديه للصحوة الإسلامية بتجلياتها المختلفة، دافع الشيخ عن الضوابط العلمية للاجتهاد، وهو من أئمة الاجتهاد الفرعي، وكانت رسالته لنيل درجة العالمية أو الدكتوراة عن فقه الزكاة، وتضمنت اجتهادات معاصرة، كما تضمن سِفره القيّم “فتاوى معاصرة” الكثير من الاجتهادات التي تلبي حاجة المسلمين إلى فتاوى تصحح لهم مسيرة حياتهم، وفق متطلبات الشرع الحنيف.
ورغم ذلك، فهو من أكثر المطالبين والداعين للاجتهاد الجماعي، وقد حاول تطبيق تلك الفكرة في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وتسببت بعض اجتهاداته في إثارة كم كبير من الجدل الفقهي الذي افتقده المسلمون طويلاً، ولم يتعوده أبناء الصحوة من الشباب الطالبين للعلم الشرعي الذين اعتادوا الركون إلى الرأي الواحد أو النقل عن كتب السابقين دون التصدي للقضايا المعاصرة.
أما الشيخ ومدرسته التي أسسها فكانت تتصدى للمواجهة ووضع الحلول أمام جماهير الصحوة، انطلاقاً من المدرسة التي تربى فيها الشيخ، وانتسب لها طوال حياته، التي تعمل وتجاهد من أجل بناء نهضة إسلامية في كافة المجالات على أساس الإسلام العظيم، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتأخذ من المعين الصافي الذي لا يختلف عليه أحد؛ وهو القرآن العظيم والسُّنة النبوية الشريفة.
وقد تعرض الشيخ بسبب تصديه لهذا الشأن الخطير (الاجتهاد) لهجوم عنيف، كما تعرض أستاذه الراحل الشيخ محمد الغزالي من أنصار الجمود والتقليد والهروب من مواجهة الحياة وتعقيداتها إلى كهوف العزلة والانسحاب، فلم يعبأ بذلك الهجوم، بل استمر في عمله الدؤوب راغباً فيما عند الله.
4- الظواهر السياسية وتقلباتها:
عاصر الشيخ تقلبات الحياة السياسية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وكان له كبير الأثر في تنوير المسلمين عامة والشباب خاصة، بأهم تداعيات تلك الظواهر على المجتمعات المسلمة.
وكان من أهم ما تأثرنا به وساهم بقوة في انحيازنا إلى الفكرة الإسلامية، كتابات الشيخ خاصة كتابيه الشهيرين “الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا”، و”الحل الإسلامي”.
وجاءت هذه الكتب لترد على الحملة الشديدة التي تبنتها النظم الثورية الشمولية الاشتراكية، التي واكب حملتها ضد الإخوان المسلمين في مصر حملة أشد على المفاهيم الإسلامية والمشروع الإسلامي للنهضة.
تجاوبه الفكري مع مرحلة ما بعد الصحوة
وعندما ترسخت الصحوة واستقرت في نفوس الشعوب الإسلامية، ظهرت حاجة ملحة للإجابة عن أسئلة أخرى، فقد أيَّدت الجماهير الحل الإسلامي، ولكن ارتبكت الساحة الإسلامية حول وسائل التغيير والموقف من الحلول الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات العامة والمحلية والبرلمانية والطلابية وغيرها، ثم التعددية الحزبية والمشاركة في حكومات علمانية.. إلخ.
وبرز دور القرضاوي، وهو الأبرز بين أدوار كثيرة مارسها دعاة ومربون وقادة إسلاميون مثل الغزالي، والتلمساني، والهضيبي الابن (محمد المأمون) –يرحمهم الله– والغنوشي.. وغيرهم، وما زالت قولته المشهورة: “الأحزاب في السياسة كالمذاهب في الفقه” تتردد حتى يومنا كدليل عمل للحركة الإسلامية التي تشارك بقوة في الحياة السياسية في كل بلاد العالم الإسلامي.
وكتب الشيخ كتابه الموجز “فقه الدولة في الإسلام” الذي جمع فيه حصيلة آرائه واجتهاداته حول أهم المشكلات التي تواجه العقل الإسلامي في المجال السياسي ومجال إدارة شؤون الدولة ونظم الحكم.
كما لم يهمل الشيخ ظواهر أخرى لها تأثيرها على المجتمعات الإسلامية خاصة الشباب مثل العولمة، فكتب كتابه “المسلمون والعولمة”.
هذا التنوع الكبير في القضايا التي يتصدى لها الشيخ لم يفقده أبداً تميزه وتفوقه، فهو يكتب ويخطب ويحاضر بعقل الفقه وقلم الأديب وروح الشاعر وحماس الثائر، ولم يطفئ توهجه حضوره المستمر على شاشات الفضائيات في العقد الأخير، بل لم يقلل من تأثيره إن لم يزد تأثيراً برنامجه الأسبوعي الثابت “الشريعة والحياة” على قناة “الجزيرة” واسعة الانتشار، وإن كان محبوه وعارفو فضله ألحوا عليه بالإقلال من الظهور الأسبوعي والتفرغ لما هو أهم.
5- ظاهرة الوجود الإسلامي في الغرب:
أدى تنامي ظاهرة الوجود الإسلامي في الغرب بسبب تزايد أعداد الدارسين في أوروبا وأمريكا، ثم العمال الذين تدفقوا بكثافة خاصة من بلاد المغرب العربي، بدءاً من السبعينيات وحتى الآن، إلى أن أصبحت الجاليات المسلمة في أمريكا وأوروبا رقماً صعباً في السياسات الأمريكية والأوروبية في كافة المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، بل والاقتصادية.
وكان للدكتور القرضاوي أكبر الأثر في الاحتكاك بهذه الجاليات منذ نشأة المراكز الإسلامية وبداية تكوين الجمعيات الطلابية والمؤسسات الإسلامية، ولعل عدم إتقان الشيخ لإحدى اللغات الأجنبية حرم المسلمين من غير العرب، بل وبقية مواطني أوروبا وأمريكا من المتعطشين لمعرفة الإسلام من الاستفادة من جهوده وعلمه، حيث لم يستطع مخاطبتهم بلغة يفهمونها مباشرة، ولم تغن الترجمة عن الحوار المباشر، فقد تمت ترجمة الكثير من كتبه إلى عدة لغات.
تطور دور الشيخ من مجرد إلقاء المحاضرات وحضور المؤتمرات السنوية إلى إنشاء “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث” الذي يترأسه وساهم في تأسيسه ليلبي حاجات هذه الجاليات في القضايا التي تحتاج إلى اجتهاد وإفتاء جماعي، وبذلك أصبحنا أمام مجمع فقهي من معظم المذاهب ومن كل البلاد تقريباً.
وقد كتب الشيخ كتابه “من أجل صحوة إسلامية راشدة” تلبية لدعوة من رابطة الشباب المسلم العربي بأمريكا الشمالية، في مؤتمرها السنوي عام 1989م، ولعل الكثير من كتاباته كان تلبية لحاجة الشباب في كل مكان.
_______________________________________________________
العدد: 1766، 12 شعبان 1428هـ / 25 أغسطس 2007م، ص34–36
كاتب المقال: د. عصام العريان