لا يكتمل الاحتفاء بالهجرة النبوية بغير شحذ القلوب بما تعنيه الهجرة كحدث مركزي غيّر مجرى التاريخ البشري والإسلامي، ولا يزال يغيّر مجرى حياتنا، وقد بات أبناؤنا في حاجة ماسة لتلمّس دروس وخطى الهجرة.
كثيراً ما يتواجد ابنك في بيئة بعيدة نسبيًا عن الارتباط بالتقويم الهجري، باستثناء ذلك الذي يدونه خلف معلم اللغة العربية والدينية في حصص بعينها، وها هي الفرصة سانحة مع ميلاد عام جديد لتذكيره بذلك التقويم بشكل أعمق، لا يقوم على مراقبة القمر في السماء فقط، لكن التطلع لسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحركته المباركة، وكيف نحيا مهاجرين إلى الله تعالى، وهو المعنى النفيس الذي قدمه الإمام ابن القيم في تذكرته «زاد المعاد»، فالهجرة إلى الله ورسوله هي حقيقة الهجرات، وأن سعادة الروح في طريق الله القويم.
أن تهاجر لأجل الرسالة
عادة ما يهاجر الإنسان بحثاً عن حياة أفضل، لكن أن تترك كل شيء؛ مالك وتجارتك وبيتك وعائلتك وأرضك، وتصبح فجأة مجرد فرد في قافلة المهاجرين بأرواحهم لنشر رسالة الإسلام؛ فهذا إيمان يجب أن تغرسه في ابنك، فكثيراً ما نرى من أبناء المسلمين من يطلب العلم أو المال في بلاد غير المسلمين، ثم ما يلبث أن يستقر فيها بلا عودة!
وسوف يسألك ابنك لماذا الهجرة؟ والحقيقة فلقد سبقت الهجرة النبوية المباركة 13 عاماً منذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كانت الدعوة فيها سرية أولاً ثم أصبحت جهرية، وتخللتها أحداث مؤلمة قادتها قبيلة قريش من تنكيل وتعذيب للمسلمين، خاصة بعد وفاة عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، واشتداد أذى القبائل المتحالفة مع قريش ومنها ثقيف، أعوام قاسيات اشتد الحصار ثلاثة أعوام حتى أنّت البطون؛ لا بيع مع المسلمين ولا شراء ولا معاملة، ورحلت السيدة خديجة حصن الأمان النفسي وزوج النبي الكريمة، فيسمى بـ«عام الحزن».
هنا درس في عوض الله الكبير؛ رحلة الإسراء والمعراج وما فيها من يقين بملكوت الله تعالى وجمع بالأنبياء ورؤية للدار الآخرة، وبيعتا العقبة الأولى والثانية، وتدشين نواة سفراء الإسلام من شباب قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة المنورة أو (يثرب) وجهة الهجرة القادمة.
ثم يأتي الإذن الإلهي للنبي وصحبه بالهجرة بعد أن أبلغوا رسالة الإسلام في مكة، ولهذا فإن كانت الهجرتان الأوليان للحبشة وملكها العادل النجاشي طلبًا للأمان الشخصي للمؤمنين، فإن الهجرة الثانية للمدينة كانت طلبًا لحماية المشروع ذاته، حسبما يتأمل د. أحمد خيري، في كتابه القيم «السيرة مستمرة».
الأسباب ثم طمأنينة التوكل
إن تتبعنا سيرة الهجرة النبوية كما دوّنها ابن هشام وغيره من مؤرخي الحقبة النبوية، سنرى أننا أمام قائد بارع، يجيد رسم الخطط وتوزيع الأدوار وفرض السريّة، اختيار التوقيت الملائم واتخاذ العدّة، لقد حدث كل ذلك وأكثر في أيام الهجرة النبوية، وهو درس لأبنائنا ولنا في كيفية النجاح في الحياة والأخذ بالأسباب قبل أن نزفر في طمأنينة ونقول: توكلنا على الله!
سنرى أيضاً تربية إيمانية غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في صحبه الأوائل، وجعلتهم يقبلون مساومة قريش لهم للخروج من مكة، ولو تركوا أحدهم زوجته وولده (أبو سلمة)، أو ترك ماله كاملًا (صهيب الرومي)، لقد ربح البيع!
ويقدم لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه درسًا في امتلاك الزمام والقوة التي أهلته للخروج علناً مهاجراً متحدياً، وهناك شجاعة فتى الفتيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ينام في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي فراشه، لخداع قريش، وقد وقف المشركون ممثلين لكل القبائل بسيوفهم ممشوقة، ينتظرون النبي لقتله، المثير أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً وصاحبه أبا بكر كانوا آخر من هاجر، ومن بين الأسباب رد النبي صلى الله عليه وسلم أمانات قريش؛ تخيل أنهم استأمنوه على مالهم واتهموه بالكذب في رسالة الدين!
ثوب تشقه السيدة أسماء بنت أبي بكر لإخفاء مؤونة أبيها والنبي صلى الله عليه وسلم، متحملة شدة حملها في وليدها وشدة الصحراء ولهيبها، ودور استطلاعي لأخيها عبدالله حين يتسمع أخبار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، وإخفاء لآثار الأقدام برعي الغنم من خلال الراعي أبو فهيرة، فريق متكامل في خدمة رسالة سامية.
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة في اليوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشرة للبعثة، وكان معه صاحبه الوفي أبوبكر الصديق، الذي أعطانا درساً في الوفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وليس لمجرد صديق حميم، يفديه بنفسه في الغار، يخرج معه بكل ما يملك من مال، وصدق وعد الله تعالى وزاغت أبصار قريش فلم ينظر أحدهم أسفله ليرى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين طمأن صاحبه: «إن الله معنا»، هنا درس التوكل بعد اتخاذ الأسباب، هنا جنود لا نراهم من رب العالمين!
طلع البدر علينا
كانت يثرب على موعد مع نبأ عظيم، نبي العالمين جاء أخيراً من ثنيات الوداع، انتظرته القلوب والأبدان طويلاً فوق أسطح البيوت وفي الطرقات لتكون بشرف استقباله، ودروس لا تحصى في إيثار الأنصار سواء في قصة أبي أيوب الأنصاري، أو كافة من اقتسموا بيوتهم وتجارتهم مع المهاجرين، وأمنوا روع البعيد عن داره، وهذا حال المسلم مع أخيه!
وعند القادة لا مجال للراحة، من اليوم الأول يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في وضع دستور المدينة وبناء لبنات المسجد الأول، ويتأهب للغزوات المباركة التي تحمي شوكة المسلمين وعزتهم، سنوات قليلة ويعود المسلمون فاتحين مكبرين مهللين، ويحطم نبيهم صلى الله عليه وسلم الأصنام التي أهانت عقول البشر، ويعود لمكة وطنه الذي هاجر منه ولم يهجره بقلبه، وكان شاهداً على صباه وشبابه وبعثته نبياً في غار حراء وجمعه بصحبه في دار الأرقم وزواجه المبارك وسنوات الشدة التي أصابت المؤمنين، درس عظيم في معنى الوطن ومعنى الرسالة.
والآن مع الاحتفال بالهجرة النبوية، ضع مع ابنك قائمة بما يريد إنجازه، واجعلها قريبة من ناظريه، وحفزه على تطبيقها وابدأ بنفسك في قائمتك الخاصة، لا نعني أهدافنا في التعليم والعمل فقط، لكن أيضاً أهدافنا لأسرتنا وعائلتنا، وكيف نصبح في ترابط أكبر!