يبدو فن الرواية في العصر الحديث مؤثراً بشكل كبير على القراء، فيقدم لهم الأفكار والقيم والتاريخ والأحداث بشكل سلس وناعم، ويتقبله القارئ العادي ببساطة شديدة، ويتفاعل معه، وتتشرّبه عواطفه ومشاعره قبل عقله وفكره، وأدركت ذلك بعض الجهات فألحّت عليه وروّجت له، ومنحت أصحابه الدعاية الضخمة والشهرة الكبيرة، والجوائز الثمينة، والامتيازات الاستثنائية، في حال تحقيق غاياتها الثلاث الرئيسة؛ الطعن في الدين، تسويغ الإباحية، تسييل القيم.
من يراجع الروايات التي صدرت في العقدين الماضيين على الأقل، يجد كثيراً منها يصب في هذه الغايات الثلاث بصورة وأخرى.
«أنسنة» العدو!
في مجال تسييل القيم، تقدم بعض الروايات وجهات نظر سلبية ومريبة حول الوطنية والخيانة، و«أنسنة» العدو، بل جعله أحياناً رسولاً للتقدم وبشيراً بالنهضة!
رواية «يعقوب» لمحمد عفيفي، (دار الشروق، القاهرة، 2021م)، نموذج صارخ لتسييل القيم، من خلال اللعب بالتاريخ، وتضليل القارئ، والدفاع عن الخيانة وتسويغها تحت ستار عرض آراء منحازة وأقوال مرسلة.
تعالج الرواية خيانة شخصية تاريخية مصرية من غير المسلمين، في أثناء الحملة الفرنسية الاستعمارية على مصر والشام (1789- 1801م)، وهي شخصية المعلم يعقوب حنا، الذي كوّن جيشاً من النصارى المصريين والشوّام، وحارب شعبه منحازاً إلى الفرنسيين الغزاة، وجعل منه بعض المعاصرين بطلاً لما يسمى استقلال مصر، دون التفات إلى مساندته للمستعمرين الفرنسيين الغزاة، وقتله لشعبه الذي أطعمه المنّ والسلوى، ووضعه في أكبر المناصب (ما يعادل الآن وزارة المالية).
تقع الرواية في عشرين فصلاً، يحمل كل منها عنواناً دالاً على مرحلة من مراحل حياة الراوي، الذي بدا وكأنه يحكي سيرته الذاتية، ويتراوح كل فصل بين سبع صفحات وثلاث من القطع الصغير (كتاب الجيب).
مسيرة الراوي
الراوي أستاذ جامعي يصف نفسه بالتلميذ، ويحكي مسيرته الجامعية مذ كان يدرس في مرحلة الماجستير، حتى وصل إلى رئاسة قسم التاريخ بكلية الآداب- جامعة القاهرة، وقد دارت دراسته العليا حول الأوقاف وقضايا النصارى الذين يسميهم الأقباط، وكأن التسمية لا تنسحب على بقية المصريين!، وتكاد تنطبق حياة التلميذ أو الراوي على حياة الكاتب تمام الانطباق، ولعل هذا السبب كان من وراء برودة السرد وبلادته، وكأنه تقرير علمي جاف، يفتقد روح الفنّ وتشويقه ومعطياته النفسية والاجتماعية.
يبدأ بناء الرواية بحوار بين الأستاذ والتلميذ حول انفجار قنبلة في كنيسة بحي مسرّة أحد أحياء شبرا، راح ضحيته عدد من النصارى والمسلمين، إذ تصادف مع حفل عقد زواج بقاعة الكنيسة، ويشكّل الانفجار مدخلاً لأحكام عامة وإدانة مسبقة للطرف الآخر، «نعم، على أيامنا كان التعايش هو سمة هذا الحي، وربما مصر كلها»، «هذا التطرف المستجد» (الرواية، ص8)، ويكشف التلميذ (الراوي) أنه يسعى لتسجيل موضوع للدكتوراه حول «التطرف» -يقصد الإسلامي، وليس غيره!- ويشير إلى أهم مراجعه وهو تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفع (ص 20)، وهو مرجع مليء بالتعصّب والتزوير والأقوال المرسلة.
الرؤوف الرحيم
في أثناء جمع التلميذ لأوراقه البحثية في مكتبة الكنيسة، وطيّ المخطوط الذي كان يطالعه، سقطت أوراق من آخر المخطوط، هنا ارتبك التلميذ، وثارت ثائرة الخادم:
– «يا أستاذ انت قطعت المخطوط!
– “لا والنبي أبداً.. دقيقة واحدة، حشوف إيه حكاية الورقتين دول» (ص 23).
في أعلى منتصف الورقة الأولى كتب: «بسم الله الرؤوف الرحيم»، وبعد ذلك في السطر التالي: «في ذكر واقعة دخول المعلم يعقوب بفؤوسه إلى الكنيس، وحرم سيدنا البطرك له (ص 23)، وبعده ترجمة يعقوب، وقصة حياته من البداية حتى الخيانة (ص، 24- 25)، وتسويغ الخيانة مقدماً! والتمهيد لذلك بأنه شخصية خلافية «التيار القومي المصري(!) يرى فيه بطلاً وطنياً، كافح التسلط العثماني(!) الذي حكم مصر باسم الدين، والدين منه براء(!)، لكن هناك من يرى في يعقوب صورة «المتطرف القبطي» الذي تعاون مع المستعمر الفرنسي ضد بلاده، كلها صور نمطية(!)، ولم ينظر أحد إلى يعقوب كفرد، أو كإنسان(!)، بعيداً عن حجاب الأيديولوجية» (ص 27)، ثم يسوّغ خيانته بظروفه الخاصة: ضياع الابن السند والزوجة الوفية، ويخاطب الرب كأنه يراه: «هل تنتقم مني أم منهما؟! ماذا فعلا؟!» (ص 27)، ويظهر له الشيطان على هيئة رجل:
– «من أنت؟
– أنا من قال: لا.. والمجد لمن قالها.
– أنت هو.
– اتبعني.. من اليوم لا رب لك إلا أنا، من اليوم تدخل جنة المخالفين، من قالوا لا ورفضوا الطاعة!» (ص 28).
التاريخ وثائق.. أين هي؟
المفارقة أن التلميذ يقول: «ليس في التاريخ أحلام، لقد تعلم أن التاريخ وثائق، وإذا ضاعت الوثائق ضاع التاريخ» (ص 29) أين الوثائق؟
«لم يعرف عن القبط ركوب الخيل، واستعمال السيف، إنها صنعة المماليك والعثمانلية، كان أكابرنا يركبون البغال، وينزلون من عليها، احتراماً عند مرورهم بأحد المتنفذين من أهل السيف، أو أحد كبار المشايخ، لكن المتعوس يعقوب، بتقربه الشديد إلى المماليك، تعلم ركوب الخيل، واستعمل السيف تشبهاً بهم، مخالفاً ما درج عليه أبناء القبط، وكان هذا بداية الخراب الذي جره علينا، ومع قدوم الفرنسيس إلى بر مصر، انضم يعقوب إليهم، وتزيا بلباس العسكر وجمع حوله المئات من شباب القبط من الصعيد الذين كانوا يشتغلون مع الفرنسيس، من أجل لقمة العيش، وكوّن منهم المتعوس ما سمي بـ«الفيلق القبطي»، ووهب الفرنسيس يعقوب سيفاً ويقال: إنه حصل على رتبة عظمى في جيشهم.
لكن سيدنا البطرك لم يكن راضياً عن تصرفاته وأحواله، وسمعت من بعض شيوخ الأقباط المسنين، أن سيدنا قد نصحه المرات الكثيرة بالعدول عن هذه الخطة فلم يقبل، وعاوده بالنصيحة مرة أخرى فجاوبه جواباً عنيفاً.
المحكمة الشرعية
ولم يكتف المتعوس بذلك، من مخالفة عموم القبط، بل تشبه بأثرياء المماليك، واقتنى الجواري السودانيات والحبشيات، وتسرّى بهن، مخالفاً وسائل الآباء في تحريم ذلك، واعتباره زنى! وساقه الشيطان إلى الزواج من امرأة شامية ليست من جنسنا ولا إيماننا، ولا مذهبنا، ورفضت الكنيسة إبرام ذلك الأمر، فما كان من المتعوس إلا أنه ذهب إلى المحكمة الشرعية ووثق ذلك الأمر على شريعة المسلمين، وغضب سيدنا البطرك، وأعلن أن ذلك زنى، واشتعل غضب يعقوب وساقه شيطانه إلى ركوب فرسه، واقتحامه للكنيسة، شاهراً سلاحه، وعلى الفور حرم سيدنا البطرك هذا المتعوس، الذي خرج من رحمة الكنيسة» (ص29- 30) (تبرئة القيادة الدينية، وتصوير المسلمين أنهم منحرفون لأنه يقلدهم، وتقديمه بأن لديه مشكلة مع الكنيسة وأنه خارج عليها، مع أنها لم تحرمه إلا بعد اقتحامها وليس بسبب خيانته).
«قطع التلميذ الشارع سارحاً في حكاية يعقوب؛ هل هو على صواب، أم على خطأ؟! هل هو طيب أم شرير؟! بعد ذلك، سيتعلم أن التاريخ ليس به الأبيض والأسود، أو على الأقل المساحة الرمادية هي الغالبة» (ص 30).
ويواصل التلميذ تقديم مسوغات الخيانة: «أرى أن تهتم الآن بموضوعك فقط، أنت ما زلت في البدايات وشخصية يعقوب خلافية، لا تفتح على نفسك أبواب الجحيم، على الأقل الآن» (ص 31)، ولعل القارئ يتساءل: أبواب الجحيم لماذا؟ وكيف؟ هل معرفة الخائن وتجليات خيانته يقود إلى أبواب الجحيم؟
هناك حشو كثير واسترسال في النص، يُنظر مثلاً ما كتب عن أحفاد يعقوب من امرأة شامية تزوجها يعقوب (ص 100 وما بعدها)، وهو كلام لا فائدة منه في بناء الرواية، وأيضاً ما ذكره عن الكتّاب الذين أنشؤوا روايات عن يعقوب والذين معه من الخونة (ضحى عاصي، شريف سعيد..).
يعقوب وبيتان
ويبدو الحشو قبيحاً وكريهاً، حين يقارن الراوي مقارنة غير موفقة بين المعلم يعقوب والماريشال بيتان (كان بطل معركة فردان في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب الثانية اتهم بالخيانة العظمى وحكم عليه بالإعدام لتعاونه مع هتلر، وخفف الحكم، وتمت المراجعة تقديراً لموقفه الذي رأى أن استمرار الحرب يعني مزيداً من الضحايا الفرنسيين، وحفاظاً على مظاهر المدنية والعمارة في المدن الفرنسية وخاصة باريس، فعقد هدنة مقابل عدم اعتداء الألمان على بقية الأراضي الفرنسية وبخاصة المستعمرات والحفاظ على الأسطول الفرنسي، وفي سياق المقارنة يقوم الراوي بتملق اليهود باتهام الماريشال بيتان بغض الطرف عن إرسال يهود فرنسا إلى المذابح الألمانية (ص 70 – 71).
والسؤال هو: هل يتساوى غض الطرف عن إرسال اليهود إلى المذابح المدعاة لدى هتلر، بالمشاركة الفعلية ليعقوب وفيلقه القبطي في ذبح مئات الألوف من المصريين المسلمين على يد بونابرت، وكليبر، ومينو، وديسيه؟ وهل يشبه يعقوب بيتان في الدفاع عن شرف مصر ضد الغزاة الفرنسيين؟، للأسف فقد قاتل مع الغزاة القتلة، وراح يسعى لاستقلال مصر عن أشقائهم العثمانيين المسلمين، والولاء للأعداء القتلة الفرنسيين والإنجليز (ص 71)، ويذهب الحشو القبيح الكريه بعيداً حين يطرح الراوي على باحث شاب سؤالاً: لماذا لا تكتب عن يعقوب دراسة جديدة من منظور حركة المراجعة؟ (ص 72)، أي مراجعة أو أي تسويغ للخيانة؟ هذا تزوير فاضح لتاريخ مصر، ودفاع رخيص عن خائن طائفي صريح.
البناء الروائي بصفة عامة ضعيف ومتهافت!