يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس السابع بعنوان «تهيئة المدعوين».
يقصد بـ«تهيئة المدعوين» الأساليب التي يستخدمها الداعية لجذب انتباه المدعوين نحوه، واستقبال كلامه، وإثارة دافعيتهم لقبوله.
الأساليب التي يستخدمها الداعية لجذب انتباه المدعوين واستقبال كلامه وإثارتهم
التأصيل الشرعي
إن الناظر إلى رسالة الإسلام يجد أنها قد اهتمت بتهيئة الداعي والمدعو على السواء، وتهيئة الداعي تكون بحسن إعداده وتكوينه في جميع المجالات التي تخدم العمل الدعوي، وقد ساق القرآن الكريم جانباً من جوانب هذا الإعداد حين أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل في قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (المزمل)، فقيام الليل يسهم في تهيئة الداعية للعمل الدعوي، بل إنه يقوي العزم ويقوم القول، ثم أنزل عليه بعدها قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ) (المدثر)، لتكون الممارسة الدعوية بعد التهيئة النفسية.
وكما أن التهيئة النفسية ضرورية للداعية حتى يحسن عمله الدعوي؛ فإن تهيئة المدعوين ضرورة لا يمكن تجاهلها أو التغافل عنها، حيث إنها تمثل مفتاح الدخول إلى قلوبهم وعقولهم.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في تهيئة المدعوين لقوله ودعوته في مواقف عديدة، منها الفردي والجماعي، أما تهيئته الفردية للمدعو فتظهر فيما فعله مع الصحابي الجليل معاذ بن جبل، حين أخذ بيده يوماً، ثم قال: «يَا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ»، فَقَالَ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أُحِبُّكَ، فقَال رسول الله: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»(1)، ففي أخذه صلى الله عليه وسلم بيد معاذ بن جبل وتصريحه له بحبه تهيئة عظيمة لدعوته إلى ذكر الله بعد الصلاة.
أما التهيئة الجماعية للمدعوين فقد وردت في حديث أبي بكرة رضي الله عنه، حيث قال: خَطَبَنَا النَّبِيُّ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»(2).
تهيئة المدعوين ضرورة لا يمكن تجاهلها فهي مفتاح الدخول إلى قلوبهم وعقولهم
قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليُقْبِلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه(3)، وفي هذا تأكيد على ضرورة التهيئة النفسية للمدعوين من أجل تحقيق الفاعلية الدعوية والاستجابة الجماهيرية.
التوظيف النفسي
تسهم التهيئة النفسية في تحقيق التواصل الجيد بين الداعية ومدعويه، حيث تحتاج النفس الإنسانية إلى من يمهد لها الطريق، ويفتح أمامها أبواب القبول، فالتهيئة ترمي إلى إنشاء مزج شعوري وارتباط وجداني بين الداعية والمدعوين(4)، كما تعين التهيئة على حركة العقل ونشاطه، وتعتمد على التصوير والتخيل، بهدف إخضاع النفس لحقائق علمية صحيحة، أو لمبادئ خلقية سليمة، فهي طريق تربوي إلى غاية تربوية(5).
وتتحقق التهيئة النفسية للمدعوين من خلال أساليب متنوعة، منها: طرح الأسئلة المثيرة، وسرد القصص والحكايات والطرائف الهادفة، وعرض الأحداث الجارية، وغيرها من الأساليب التحفيزية التي تثير الوجدان وتحرك الأركان.
التوظيف الدعوي
إذا أدرك الداعية أن التهيئة النفسية للمدعوين تسهم في تحقيق الاستجابة؛ فإنه يبادر إلى تفعيلها وتوظيف أساليبها في خطابه الدعوي، حتى يرفع همة المدعوين إلى العمل الصالح، وذلك من خلال الوسائل الآتية:
1- استخدام أسلوب التشويق في الخطاب الدعوي؛ وهو أسلوب يبعث على إثارة الانتباه وإيقاظ الهمم، والبحث عن هذا الجديد الذي تتطلع إليه النفس البشرية، وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في القرآن والسُّنة، ففي القرآن الكريم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (الصف).
التهيئة النفسية تسهم في تحقيق التواصل الجيد بين الداعية ومدعويه
وفي السُّنة النبوية الشريفة ما يؤكد استخدام أسلوب التشويق من أجل التهيئة النفسية للمدعوين، وهذا مطلع بعض الأحاديث التي جعلت الصحابة يتطلعون شوقاً إلى الإقدام على الطاعة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»(6)، وقال لهم في مجلس آخر: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؟»(7)، وقال لهم أيضاً: «لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»(8)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبعث في النفس الشوق إلى الثواب، فتتحرك في ميدان العمل الصالح ساعية إليه.
2- بيان الثواب والعقاب على الأعمال، حيث إن تحصيل الثواب والنجاة من العقاب من أهم الأهداف التي يسعى المؤمن إلى تحقيقها، فإذا أفصح الداعية عن الثواب أو العقاب المترتب على الأعمال؛ فإنه يهيئ المدعو إلى المسارعة في فعل ما يجلب له الثواب واجتناب ما يُسَبب العقاب.
ومن أمثلة هذا في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7)، فقد علّق تحصيل الثواب والعقاب هنا على شرط الفعل، وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب، قائلاً: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»(9).
3- الترحيب بالمدعو والثناء عليه؛ فإن الثناء على المدعو بما هو أهله يفتح قلبه إلى الداعية، فيُقْبِل عليه ويستمع إليه وغالباً ما ينقاد إليه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك، حين قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ لهم: «مَرْحَباً بِالْوَفْدِ، الَّذِينَ جاؤوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»(10).
والناظر إلى هذه الأساليب الدعوية يجد أنها قد أسهمت في إثارة المدعوين وتحفيزهم وتهيئتهم إلى قبول الدعوة والاستجابة لها؛ مما يفتح المجال أمام الداعية أن يستأذن على القلوب كما يستأذن على البيوت، وأن يحرص على تهيئتها بكل وسيلة متاحة ومباحة، عسى الله تعالى أن يفتح به وله قلوب العباد ومغاليق البلاد.
استخدام أسلوب التشويق يبعث على إثارة الانتباه وإيقاظ الهمم
الدليل على التأثير الناجح
تبين فيما سبق أن التهيئة النفسية للمدعوين تسهم في تحقيق الفاعلية الدعوية، وقد تعددت الأمثلة التي تدل على ذلك من المواقف النبوية التي سبق ذكرها.
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك أيضاً: ما كان من أمر السيدة أم سُلَيم الأنصارية زوج أبي طلحة، الذي كان له منها ولدٌ يشتكي ألماً، فخرج أبو طلحة إلى المسجد، فتوفي الغلام، وعندما أرادت أم سليم أن تبلغ زوجها خبر الوفاة لم تصدمه به مباشرة، وإنما هيأت عقله وقلبه لقبوله، فقالت له: يا أبا طلحة، ألم ترَ إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتّعوا بها فلما طُلبت منهم شقّ ذلك عليهم؟ قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله فقبضه إليه؛ فاسترجعَ وحمدَ الله(11).
والناظر في هذا الموقف يجد أن السيدة أم سليم لم تفاجئ زوجها بخبر وفاة ولده، وإنما حرصت على تهيئته لهذا الأمر حتى استعد له ثم أخبرته، فجاء الأمر يسيراً عليه.
والخلاصة؛ أن التهيئة النفسية للمدعوين تعد ركيزة فاعلة من ركائز النجاح الدعوي، وقد أكدتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وأثبتت الوقائع التاريخية دورها في التأثير والنجاح الدعوي.
_______________________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (36/ 430 رقم 22119) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، (2/ 620 رقم 1654).
(3) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (1/ 159)
(4) الدعوة المؤثرة، د. جمال ماضي، ص 96.
(5) منهج تربوي فريد في القرآن الكريم د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 64.
(6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (20 / 124) رقم (12697)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(7) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (6/ 2452 رقم 6281).
(8) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/ 74 رقم 54).
(9) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (6/ 2459 رقم 6304).
(10) متفق عليه: أخرجه البخاري، (5/ 2285 رقم 5822)، وأخرجه مسلم (1/ 47 رقم 17).
(11) الطبقات الكبرى لابن سعد، (7 / 78).