لا أكتب اليوم لإحياء ذكرى، فأعمال الرجل أكثر من أن تحصى وجهوده ومنجزاته وأنشطته، المعروفة والتي لم يتم التعرف عليها بعد على امتداد العالم ما زالت تقف شاهدة له، تذكر به وتذكره بكل خير، ويكفيه أن سجل أعماله يشهد له، إن شاء الله، عند ربه، وهو بالمناسبة ليس في حاجة لهذه الكلمات من مثلي أو غيري، وإنما هي وقفة تأمل أمام مسيرة واحد من أهم الشخصيات الجامعة في المنطقة هو الشيخ عبدالله العلي المطوع (أبو بدر)، رئيس مجلس إدارة مجلة «المجتمع» وجمعية الإصلاح الاجتماعي الكويتية، يرحمه الله، ورغم مرور سبعة عشر عاماً على رحيله، فإن الحديث عنه ما زال متواصلاً؛ لأن معين إنجازاته وعطائه لم يتوقف، فهو رائد العمل الخيري والزعيم السياسي والمصلح الاجتماعي والخبير الاقتصادي والخبير الحاذق بمعادن الناس، وذلك جانب مهم، هكذا خبرته من خلال معايشتي له عن قرب لمدة خمسة عشر عاماً مديراً لتحرير مجلة «المجتمع».
كان يقوم بدوره الخيري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي كاملاً دون أن يطغى جانب على جانب آخر، ودون تعطيل لعمله الحياتي وتجارته الواسعة، بل أكاد أزعم أن جل عمله كان مكرساً لخدمة العمل الإسلامي والقضايا الإسلامية وحاجات الشعوب المسلمة، وكان يمارس من خلال ذلك عمله التجاري، وأثمر ذلك بركة ونماء على تجارته، فقد روى لي أحد الذين كانوا يصاحبونه في رحلاته التجارية حول العالم أن حرصه على تقديم أي أمر يخص العمل الإسلامي -وخاصة متابعة شؤون مجلة «المجتمع»- على أي عمل تجاري كان يثمر بركة ونجاحاً كبيراً في صفقاته التجارية، وسألني: هل تتذكر يوم كان أبو بدر في سفرته الأخيرة، لقد كان عندما اتصلت أنت به في نقاش ساخن حول صفقة تجارية كبيرة ومهمة، وبمجرد أن رأى اتصالك قطع الاجتماع واستأذن للخروج للرد عليك، فظن أصحاب الصفقة أن عرضاً أفضل وصله، وخشوا من ضياع الصفقة، وبمجرد عودته وافقوا مباشرة على كل ما كانوا يرفضونه، واستغرق وقتاً طويلاً في نقاش صعب، وقد ربح أبو بدر من ذلك الكثير بفضل حرصه على عمله الدعوي بالرد على مكالمة «المجتمع»، وهو هو أبو بدر يرحمه الله حدثني في ذلك بعد عودته ممازحاً، ودار في خلدي يومها حديث القائل: «خليك مع ربنا ورزقك جاي لك جاي، بس اعمل اللي عليك».
كان، بحق، مؤسسة في رجل، ورجلاً بأمة، وما زالت مؤسسته الخيرية التي رتب إدارتها جيداً على هدي من تعاليم الإسلام، تعمل بنجاح حتى اليوم على يد رفاق دربه الذين نذروا أنفسهم لاستمرار عطائها بنجاح، نسأل الله لهم التوفيق.
كان لا يخشى في الله لومة لائم حتى مع أقرب الناس إليه، فعندما أقام أحد أقربائه حفلاً خيرياً لدعم المرضى، وتخلل الحفل مخالفات شرعية صارخة، نشرت وقائعها الصحافة المحلية، اتصل بي طالباً قيام «المجتمع» بانتقاد ذلك الحفل بكلمات قوية، فنبهته إلى أن ذلك يمكن أن يحدث له بعض المنغصات الاجتماعية، فرد: ما عليك، فكتبنا النقد المطلوب في الافتتاحية المختصرة للمجلة –بخلاف الافتتاحية الرئيسة- منددين بما جرى بكلمات قوية، لتتأكد مصداقية الرجل مع نفسه، وأنه لا يجامل في الحق ولا يخشى في الله لومة لائم.
كان يستمع لي ويسمح لي بمخالفته في الرأي، وقد حملني ذلك مسؤولية الاستعداد بأسانيد قوية ومقنعة لموضوع الخلاف، ففي يوم شتاء من أيام الكويت العاصفة وكان يوم الإجازة الأسبوعية، طلبني للقدوم إلى بيته لأمر يخص النشر في المجلة، فذهبت إليه وتناولت منه الأوراق ونظرت في مقدمة المقال المكتوب -سريعاً- قبل أن أضع الأوراق في سيارتي والذهاب بصحبته لصلاة العصر، وخلال ذهابنا وعند عودتنا من المسجد شدد عليَّ أكثر من مرة بضرورة النشر في العدد القادم، فطلبت منه إمهالي حتى أقرأ المقال جيداً وأستوثق مما فيه من معلومات، فقال: هذا رجل ثقة، والمقال عن الشيخ حسن البنا، فأجبت: لهذا كنت أستأذن حضرتك تمهلني لصباح غد وسأوافيك برد كاف ثم يكون قرار النشر –وفق اتفاقنا- لحضرتك، فوافق على مضض قائلاً: لا تتأخر عليَّ.
ذهبت إلى بيتي واطلعت على المقال المترجم، فاكتشفت أنه هو هو نفس ترجمة أ. أنور الجندي يرحمه الله لما كتبه الكاتب الأمريكي الفذ روبير جاكسون عن الإمام الشهيد حسن البنا في بداية أربعينيات القرن الماضي، ونشرها كتاب «المختار الإسلامي» بعنوان «الرجل القرآني»، فوضعت أوراق المقال جانباً، وبدأت السؤال عمن أعطى للعم أبي بدر هذه الترجمة وادعى أنه بذل فيها جهداً مضنياً، وحصلت على معلومات مهمة عنه من بعض المخضرمين في الحركة الإسلامية، والتزمت الصمت في حيرة، لا أنا أريد أن أفجعه في صاحب المقال المزور، خاصة أنه شكر فيه كثيراً، ولا أنا سأنشر هذا المقال مهما كان الأمر لأني سأضيّع حقوق كثيرين وهم كتَّاب كبار.
اتصل بي معاتباً آخر اليوم لتأخري في الرد عليه، فسألته عن إمكانية تأجيل النشر؛ لأني أشك في أن من أرسل له هذا المقال المترجم ربما أرسل أوراقاً بالخطأ وليس من بينها المقال المقصود، فأكد لي أن الأوراق صحيحة وشدد على أهمية النشر دون تأخير! فما كان من بد من الرد مباشرة: هذا المقال مسروق، ومن أرسله لحضرتك لم يبذل فيه ولا في ترجمته أي جهد، والترجمة الأصلية باسم أ. أنور الجندي، وهي موجودة ومنشورة، وسأقدم كل أسانيدي على ذلك ثم يكون القرار لحضرتك وحدك، وبالفعل وبعد اطلاعه على كل شيء اقتنع بعدم النشر، ثم أحلته على من أعطاه مزيداً من الحقائق حول الموضوع.
صحيح أن الرجل كان شديد المراس في النقاش ويحتاج إلى نفس طويل وهمة عالية للمواصلة، لكنه عندما تتجسد أمامه الحقيقة ناصعة ينزل على الرأي الآخر، وبعد تلك الواقعة لم يرسل صاحب ذلك الموقف أي مقال لـ«المجتمع» مرة أخرى، فقط اتصل هاتفياً بي مرة –وهو بروفيسور كبير- ووجه لي سباباً مفاجئاً وأسرع في إغلاق الهاتف قبل أن أرد! تلك واقعة.
وفي اليوم الذي توفي فيه أبو بدر إلى رحمة الله، ظهر الأحد 10 شعبان 1427هـ/ 3 سبتمبر 2006م (تم دفنه في اليوم التالي 4 سبتمبر)، كان لي معه موعد في مكتبه بعد صلاة الظهر لمناقشة كتابة تعليق ناقد لموقف أحد قادة العمل الإسلامي في العالم العربي، فاقترحت عليه عدم الكتابة في الموضوع لأن النقاش حوله قد انتهى منذ فترة، وإعادة الحديث فيه يمثل إشعالاً له مرة أخرى ومن الممكن أن يحدث فرقة، ولا يمكن أن تتحمل المجلة مسؤولية ذلك أمام الرأي العام، وفي الأخير القرار لحضرتك، وهذه العبارة الأخيرة كانت دائماً في كل خلاف في الرأي هي سلاحي الأخير دفاعاً عن قناعتي، لأنها كانت تشعره بالمسؤولية أمام الله فتجعله يعيد التفكير مرة أخرى، وبالفعل طلب مني القدوم إلى مكتبه في صلاة الظهر على أن يكون معنا أحد العلماء المصريين الكبار، للوصول إلى الرأي الأصوب في هذا الموضوع، لكن بدلاً من أذهب للاجتماع الموعود اتصل بي الأستاذ المحترم أحمد راجح سكرتيره الخاص مخنوقاً بالبكاء: «أخ شعبان، أبو بدر تعيش أنت!»، ثم انقطع الخط، وساد صمت رهيب، ثم انطلقت بسيارتي مسرعاً إلى المستشفى الأميري في أصعب رحلة طريق حتى وصلت، فوجدت أمة من الناس تملأ الفناء وفاض الزحام إلى خارج المستشفى، وأدخلني أحد القريبين إلى غرفته حيث كان يقف عند رأسه ابنه أ. يوسف زوج ابنة الشيخ أحمد القطان يرحمه الله، وعندما رآني كشف لي، جزاه الله خيراً، عن وجه أبيه وتركني جاثياً على ركبتي حتى انتهيت، موقف لن أنساه ليوسف حفظه الله.
وهكذا بدلاً من الذهاب لاجتماع معه ومع أحد العلماء، ذهبت لألقي نظرة الوداع عليه، ولله في تصريفه وتقديره حكم بالغة: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر)، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف: 34).
لقد عملت، وما زلت، في مهنتي الصحفية التي أعتز بها سنوات عديدة وممتدة حصلت فيها من العلوم والتدريب الكثير على يد صحفيين ومفكرين يشار إليهم بالبنان -جزاهم الله عني خيراً- وخضت خلالها العديد من التجارب والمغامرات الصحفية الجريئة دفاعاً عن الحق وحرباً على الفساد، وزرت مناطق ودولاً عديدة في أصعب الظروف، لكني أشهد –والرجل بين يدي الله- أن ما تعلمته منه عن قرب من دروس عملية ومعان إنسانية في الدقة والموضوعية والتعب في البحث عن المعلومة الصحيحة والإحاطة بالموضوع أو القضية من كل جوانبها قبل الكتابة فيها، لا يقل أهمية ولا مغزى عما تعلمته خلال مسيرتي، كان العمل معه أشبه بورشة عملية يومية؛ إيمانية ومهنية وفكرية وتاريخية، في أجواء ما زال لها عندي مذاق خاص، وفي بيته العامر تعرفت إلى معظم قادة الحركات الإسلامية في العالم وزرتهم في بلادهم، وكان يرحمه الله حريصاً على ذلك حتي تتكون لديَّ المعلومة الصحيحة في أي قضية من خلالهم، فنكتب في المجلة كتابة متقنة، وما زالت علاقتي معهم وبمن خلفهم حتى اليوم والحمد لله.
وبعد، فتلك كلمات تحرك بها قلمي عن صرح من صروح العمل الإسلامي بعد سبعة عشر عاماً من رحيله، أسوقها اليوم احتراماً لقيم الوفاء وشهادة حق بحق رجل هو الآن بين يدي الله، لكن الحديث سيظل متواصلاً إن شاء الله.
رحمه وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
________________________
مدير تحرير مجلة «المجتمع»– سابقاً.