عندما تزداد مسؤوليات إنسان ما وانشغالاته فإنه قد يقصِّر في جوانب اجتماعية مهمة في حياته، ويفقد التوازن في أداء الحقوق والواجبات، ويكون له في ذلك ألف مبرر ومبرر.
لكن رسول الله ﷺ لم تزده انشغالاته إلا حرصًا على تأدية الحقوق والواجبات كاملة غير منقوصة، وهذا من إعجاز شخصية النبي ﷺ.
وشاءت إرادة الله أن يرزق النبي ﷺ بأولاده أجمعين في مكة ومن زوجة واحدة وهي أمنا خديجة عليها السلام، إلا سيدنا إبراهيم فإنه ولد بالمدينة من مارية القبطية.
ومن البلاء العظيم الذي وقع على النبي ﷺ أن أولاده كلهم ماتوا في حياته، إلا سيدتنا فاطمة رضي الله عنها، فإنها لحقته بعد ستة أشهر من موته.
وقد كانت عاطفة الأبوة عند النبي ﷺ عظيمة جدًّا؛ حتى إنها تجاوزت أبناءه الصلبيين إلى غيرهم؛ فهذا زيد بن حارثة تبناه النبي ﷺ وأحبه حبًّا جمًّا، حتى إنه ما كان يدعى إلا «زيد بن محمد»(1).
واستمرت تلك العاطفة الجياشة مع أبناء الأبناء؛ حتى سمي الأمير أسامة بن زيد «الحب ابن الحب»، وكان النبي ﷺ لا يأنف من أن يميط الأذى عنه وهو صغير، ودعا الأمة لمحبته.
فإذا كان هذا شأنه مع زيد وابنه أسامة، فكيف هي عاطفته مع أولاده؟
وأولاد رسول الله ﷺ القاسم وبه كان يكنى، وعبدالله (الطاهر)، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة(2)، وإبراهيم.
وكانت تربية النبي ﷺ وزوجه لبناتهما تربية تغرس فيهم الحق والشجاعة ومجابهة الخصوم، وتجلى ذلك في موقف سيدتنا فاطمة مع أبيها عندما تعدى عليه صناديد قريش بوضع سَلاَ جَزُورٍ بين كتفيه وهو ساجد، فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، «حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِىَ جُوَيْرِيَةُ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ»(3).
وكان النبي ﷺ يستشير بناته عند زواجهن، ولا يفرض عليهن ما لا يرغبن فيه؛ فقد كان «يأتي خدر المخطوبة من بناته فيقول: إن فلانًا يخطب فلانة، فإن طعنت بيدها في خدرها فذلك نهي منها، فلا ينكحها، وإن هي لم تطعن بيدها في خدرها أنكحها النبي ﷺ وسكت»(4).
وكانت السيدة زينب لها علاقة مميزة مع زوجها أبي العاص الذي تأخر في إسلامه وهاجرت هي وبقي هو بمكة، لكن النبي ﷺ قدَّر تلك العاطفة القلبية عندها، بل تشفَّع عند الصحابة لإطلاق سراحه بعد «بدر» على أن يخلي سبيلها وتلحق بأبيها بالمدينة المنورة؛ قالت أمنا عَائِشَةُ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيه بِقِلاَدَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدةً وَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا(5).
وعندما خطبها سيدنا عمر إلى النبي ﷺ، فذكر ذلك النبي ﷺ لها فقالت: «أبو العاص -يا رسول الله- حيث قد علمت، وقد كان نعم الصهر، فإن رأيت أن تنتظره، فسكت رسول ﷺ عند ذلك»(6).
ولَمَّا مَاتَتْ أَعْطَى ﷺ للمغسِّلة حِقْوَهُ، وَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ»(7)، أي: الثوب الذي يلي جسدها، وقيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولاً ليكون قريب العهد من جسده الكريم حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل(8)؛ لـ«تبريكها به»(9).
ولم يكن النبي ﷺ يضيِّق على بناته في التمتع بطيبات الحياة الدنيا المباحة لهن؛ فقد رأى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ(10)، وهو الثوب اليمني الذي فيه خطوط حرير.
وكانت أم كلثوم تحت ذي النورين عثمان، ولما ماتت جلس النبي ﷺ على قبرها وعَيْنَاه تَدْمَعَانِ فَقَالَ: «هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟»، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: «فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا»، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا(11)، وكأن في ذلك لومًا من النبي ﷺ لذي النورين؛ إذ إنه «فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَاشر جَارِيَة لَهُ، فَعلم رَسُول الله ﷺ بذلك، فَلم يُعجبهُ حَيْثُ شغل عَن الْمَرِيضَة المحتضرة بهَا، وَهِي أم كُلْثُوم زَوجته بنت الرَّسُول ﷺ فَأَرَادَ أَنه لَا ينزل فِي قبرها معاتبة عَلَيْهِ، فكنى بِهِ عَنهُ»(12).
وكان نساء النبي ﷺ يعلمن مكانة فاطمة عند أبيها، لذا إذا أردن إيصال بعض الرسائل إليه؛ فإنهن لا يجدن خيرًا من الزهراء لتبليغ تلك الرسالة، وقد كن يغرن من عائشة، فكلمن الزهراء لتكلم أباها في ذلك؛ فعن عائشة قالت: ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَرْسَلْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟»، قَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ(13).
وكان يُصلح بين فاطمة الزهراء وزوجها عليّ إذا حدث بينهما ما يكدِّر صفو حياتهما، ولا يأخذ موقفًا متشددًا من صهره؛ فقد جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟»، قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ».
فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهْوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ»(14).
قال ابن بطال: وفيه: الرفق بالأصهار وإلطافهم، وترك معاتبتهم على ما يكون منهم لأهلهم؛ لأن النبي ﷺ لم يعاتب عليًّا على مغاضبته لأهله، بل قال له: «قم»، وعرَّض له بالانصراف إلى أهله(15).
وقد رعى النبي ﷺ خاطر ابنته عندما همَّ زوجها بالزواج عليها، وأكثر الناس وأفاضوا في الكلام في تلك الحادثة، فمنعه من ذلك؛ فعن الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لاَ تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ؛ هَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا، وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ»، فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ(16).
ولعله ﷺ لعلمه بسرعة لحوق ابنته به بعد مماته منع أبا الحسن من ذلك، بدليل أنه تزوج وعدَّد بعد وفاتها.
وفي الأخير هذه بعض النماذج عن العلاقة الأبوية الفريدة بين النبي ﷺ وأولاده.
_________________________
(1) أخرجه البخاري، ح(4782).
(2) سنن البيهقي الكبرى، (7/70).
(3) أخرجه مسلم، ح(1794).
(4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (6/144).
(5) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(26362).
(6) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف»، (7/172).
(7) أخرجه مسلم، ح(939).
(8) فتح الباري، (3/129) باختصار.
(9) شرح النووي، (7/3).
(10) أخرجه البخاري، ح(5842).
(11) أخرجه البخاري، ح(1342).
(12) عمدة القاري، (8/76).
(13) أخرجه البخاري، ح(2581).
(14) أخرجه البخاري، ح(441).
(15) شرح ابن بطال، (9/58).
(16) أخرجه البخاري، ح(3729).