لماذا تنكرون علينا القول بعدم ملاءمة تطبيق الحدود لهذا العصر والقاعدة الأصولية التي لا يختلف حولها علماء الإسلام تقول: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
ما زال الحديث متصلاً مع الرد على هذه الشبهة التي تأخذ حيزاً كبيراً في فكر العلمانيين والعصريين في بلادنا.
تكلمنا، الأسبوع الماضي، عن الخلل الذي وقع فيه هؤلاء عندما ظنوا أن كل أحكام الشريعة تقبل التغيير والتبديل في ظل ما يظنونه من المصلحة العامة، وعرفنا الضوابط التي وضعها العلماء لتغيير الفتوى، وأبطلنا استشهادهم بكلام الإمام ابن القيم يرحمه الله، إلا أن بعض القراء الكرام طالب بذكر بعض الأمثلة التي ضربها ابن القيم، حيث إننا ذكرنا كلامه ولم نذكر الأمثلة، ونزولاً على هذه الرغبة نقول: بعد أن قال ابن القيم: «إن الشريعة مَبْنَاها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها..»، ضرب لذلك أمثلة نذكر بعضها على النحو التالي:
الأول: ترك إنكار المنكر خوفًا من ارتكاب ما هو أنكر منه، وقد اعتمد في قوله هذا على قواعد فقهية، وهي: «ارتكاب أخف الضررين»، و«درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وهذه أصول مستقاة من أدلة شرعية.
وقال: النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم(1)، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا، ما أقاموا الصلاة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية»(2).
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيير البيت ورَده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه– خشية وقوع ما هو أعظم، من عدم احتمال قريش لذلك لقُرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
درجات إنكار المنكر
فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، والثانية: أن يقل وإن لم يَزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدَّس الله روحه ونور ضريحه، يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم(3).
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» (رواه أبو داود)، فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا(4).
وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وقال أبو القاسم الخرقي في مختصره: لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أُتي بُسْر بن أرْطَاة برجل من الغزاة قد سرق مِجَنّة (ترساً) فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» لقطعت يدك، رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة(5).
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قُوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة، أو الأرز، أو التين، أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء(6).
الرابع: ويعتمد على أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشرع مفادها رفع الحرج عن عباد الله؛ لأن الله ما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد مثل له ابن القيم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري»(7)، فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يُفرِّق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته للصلاة والصيام، وأن نهي الحائض عن الجميع سواء، وتنازع في ذلك فريقان:
أحدهما صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين.
والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز(8).
وبعد استعراض بعض الأمثلة التي ضربها ابن القيم، هل نجد علاقة بين ما ذهب إليه، وما ذهب إليه هؤلاء من جعل المصلحة هي الحاكمة على النصوص، هذه المصلحة المزعومة التي يدعون من خلالها إلى تعطيل نصوص الإسلام وأحكامه؟!
________________________
(1) الخروج المقصود هنا هو الخروج بالسيف، أما النصيحة فهي حق للحاكم على رعيته مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (رواه مسلم، 55).
(2) أخرجه البخاري (7053) واللفظ له، ومسلم (1849).
(3) «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، ابن القيم (3/ 12 – 13).
(4) «الحدود والتعزيرات»، الشيخ بكر أبو زيد، (1/ 39).
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 341).
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين، (3/ 8).
(7) أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
(8) «المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام»، علي بن نايف الشحود، (1/ 588).