إنهن خنساوات فلسطين يخاطبن فلذات أكبادهن: انهض يا بني.. فليس لك، وقد استبيح الحمى، ودنست المقدسات، وانتهكت الأعراض، واغتصبت الأوطان، غير النهوض، رغم الجراحات والآهات، رغم الآلام وعظم التضحيات.
انهض يا بني.. فقاوم.
انهض يا بني.. فضارب.
انهض يا بني.. فاستشهد.
أمر ورثته المسلمة الفلسطينية اليوم عن أمها نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها يوم قالت لابنها يوم «أُحد»، بعد أن ضمدت جراحه البليغة: انهض يا بني فأي جرح هذا الذي يقعد الرجال؟! وأي عذر لمن انتصرت آلامه وتعالت آهاته؟! انهض يا بني فليس لنا إلا النهوض.
انهض يا بني..
ما أجمله من ميراث! ورثته البنت عن أمها.. الحفيدة عن جدتها.. ميراث أعاد فينا صورة نسيبة، والخنساء.
الخنساء.. نعم الخنساء.. التي خاطبت بنيها الأربعة يوم القادسية: «يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم والله ما نبت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرادكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً إن شاء الله، فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله، مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها، وقد ضربت رواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا خميسها، تظفروا بالمغنم والسلامة، والفوز والكرامة، في دار الخلد والمقامة..».
وحين يأتيها نبأ استشهادهم جميعاً، لا تزيد على أن تقول: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وإني أسأله تعالى أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».
صورة خالدة، جسدتها امرأة مؤمنة جليلة، كنا نراها بعين التاريخ صفحة ناصعة كالحلم، فإذا بنا اليوم نعيشها واقعاً، ونراها حقيقة ملموسة، وفعلاً مكروراً، تتنافس بالقيام به الحفيدات من نساء فلسطين المؤمنات، فإذا بيومنا ينافس الغد، وواقعنا يطاول التاريخ.. خنساؤكم يا قوم غدت في فلسطيننا خنساوات.. كل واحدة منهن:
تدفع ابنها..
وتأمر ابنها..
انهض يا بني..
قاتل يا بني..
المسجد الأقصى يا بني..
العرض يا بني..
الأرض يا بني..
انهض يا بني.. انهض يا بني..
فهذه خنساء فلسطين الأولى، أم نضال فرحات التي قدمت الأسير والمطارد، تأبى إلا أن تقدم الثالث شهيداً، بعد أن أوصته كما تقول هي: «أوصيته أن يستعين بالله عز وجل، ويجعله في قلبه، وأن يذكر اسم الله على كل شيء، ويركز في مقاومته للصهاينة، وأن يلتزم بتعليمات إخوانه المجاهدين، وينفذها بحذافيرها، وأن يجعل عمله خالصاً لله، وعدم الخوف، والتركيز الجيد، وعدم التسرع بإطلاق النار».
ويذهب الفتى مزوداً بدعاء أمه ووصيتها، فيبلي بلاءً حسناً، ويذيق العدو ويلاً وثبوراً، ثم رحل، وتستقبل الأم المجاهدة النبأ بإطلاق الرصاص فرحاً بشهادة ولدها.
أما خنساء غزة أم نبيل والدة الشهيد محمد حلّس، تقول له مودعة: «اذهب على بركة الله وعد إليَّ شهيداً كما تمنيت».
ثم تؤكد أنها كانت قد اشترت الحلوى، وأعدتها قبل خروجه من المنزل، دون أن يعلم أحد بذلك، وما أن تلقت نبأ الاستشهاد، حتى قامت بتوزيعها على الجيران بعد أن أطلقت الزغاريد.
واليوم وفي ظلال «طوفان الأقصى» المبارك، تتبارى خنساوات فلسطين وحسناواتها على ضرب أروع الأمثلة في البذل والعطاء، في الصبر على الابتلاء، في التنافس في طلب الآخرة.
أم القائد صالح العاروري وأخته تجددان العهد بالخنساء من جديد، فتجعلان مجلس العزاء مجلس تهنئة ومباركة، فقد نال الشيخ ما تمنى.. نال الشهادة، فلا يصح في هذا المقام إلا المباركة.
ما أعظم هذا الفهم الذي تحلت به هؤلاء النسوة! فما كان لنا أن نرى هذا الصنف من القادة والمجاهدين، إلا بوجود مثل هؤلاء النسوة.. اللاتي كن مصنع الرجال، ومحضن المجاهدين الأبطال.
إنهن خنساوات هذا العصر.. بل هن حسناواته..
والمتابع لهذه البطولات يرى صوراً نادرة في تجسيد مواقف المرأة الفلسطينية المسلمة؛ أماً وزوجة وأختاً وابنة، التي اختارت طريق أمها نسيبة، والخنساء.
هذه هي المرأة الفلسطينية المسلمة تصنع التاريخ، وتشيد بنيان الكرامة، فلم ترض أن تكون متفرجة، ولم تقبل أن تكون نائحة باكية، لاطمة الخد، شاقة الجيب.. فأبت إلا أن تكون في البؤرة، تصنع الأحداث العظام، وتبذل التضحيات الجسام.. وهي ترفع شعار:
انهض يا بني..
انهض قاتل وقاوم..
إياك إياك أن تسالم..
أو ترضى بدعوى العار والمآتم..
والآن يا نساء العرب والإسلام.. وبعد أن حددت المرأة المسلمة في فلسطين هدفها، ورفعت شعارها، واختارت طريقها، وقررت أن تكون أم الشهيد، وزوجة الشهيد، وأخت الشهيد، وابنة الشهيد، بل أن تكون الشهيدة.. هل يليق بكن إلا السمو بالأهداف، واستنفار الجهد، وبذل الطاقات، شعاركن انهضي يا نفسي.. هذا أوان البذل والتضحيات.. هذا زمان الشهادة والاستشهاد هل رأيتهن؟! إنهن فتيات في عمر الورود، اخترن طريق الخلود كل الخلود، وزاحمن إخوانهن الشباب في ركب الشهداء.
فحرام على المرأة المسلمة في كل مكان، أن تبقى أسيرة الحاجات الرخيصة، ولاهثة وراء المتع الزائلة، تائهة في الأسواق.. متزينة متطيبة.. فآن الأوان.. أن تحدد هدفها، وتجدد مسيرها، وأن تسمو بتطلعاتها، وأن تقوم بواجبها، وأن تعمل على تهيئة ولدها وزوجها لليوم الموعود، وأن تنفق مالها وذهبها في سبيل غاياتها السامية، وتخرج عن هذا كله في سبيل الله، بنفس طيبة.. فلا أقل من هذا، مقابل تلك التي خرجت عن فلذة كبدها، بل وعن نفسها في سبيل الله.