يحتاج العلم لقلوب ذكية نقية ليتفاعل معها ويدفعها لإحداث تغير جوهري بين الناس، وهكذا العلماء والمصلحون الذين فهموا معنى دينهم الحقيقي، واستفادوا مما علموا وانطلقوا لإحداث التغيير الذي أرسى رسول الله صلى الله وسلم قواعده، وقد رحل عدد من هؤلاء العلماء والمصلحين في فبراير، منهم:
صالح العجيري.. عالم الفلك الكويتي
اسم لا يجهله أحد؛ حيث حجز مكاناً وسط العلماء والمصلحين خاصة في مجال الفلك، وقدم الكثير لعلم الفلك بتقديمه هذا العلم للعرب والمسلمين.
يعتبر العجيري من الرعيل الأول للكويت، وأحد رجال العلم والفكر في تاريخها الذين لهم دور وباع طويل في إثراء نهضتها العلمية والفكرية.
ولد صالح محمد صالح عبدالعزيز العجيري في 6 شوال 1338هـ/ 23 يونيو 1920م، في الحي القبلي بمدينة الكويت، وتربى في بداية حياته في الكتاتيب قبل أن يلتحق بالمدرسة التي أنشأها والده وبزغ فيها بين أقرانه؛ مما أهله للالتحاق بالمدرسة المباركية عام 1937م.
لاحظ والده خوفه من الظواهر الطبيعية؛ مما دفعه أن يلحقه بقبيلة الرشايدة في بر رحية جنوب غرب الجهراء لتعلم الرماية والفروسية، وليتخلص من خوفه؛ فكان يتأمل السماء فملكت عليه كل جوانحه وكانت بداية حبه للفلك.
التحلق بمدرسة عبدالرحمن بن حجي، مؤسس علم الفلك في الكويت، ودرس على يديه، وتعلم من عدد من المراجع التاريخية.
سافر للعديد من الدول للاستزادة من علم الفلك؛ حيث كانت محطته الأولى جامعة القاهرة حالياً، ثم جامعة المنصورة في شمال مصر، وحصل عام 1952م على شهادة علمية تفيد بتخصصه في علم الفلك من الاتحاد الفلكي المصري، ثم انتقل لأمريكا وبريطانيا وألمانيا والكثير من الدول العربية والأجنبية.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، بنى مرصداً فلكياً في الكويت على نفقته الخاصة بتشجيع من أمراء الكويت، وكرمته الحكومة الكويتية عام 1986م بافتتاح مرصد فلكي خاص باسمه، ونال العديد من الدكتوراة الفخرية والجوائز.
ومع أن حياته كانت صعبة؛ حيث تولى رعاية إخوته بعد وفاة والدته، كما توفيت زوجته وولده، إلا أنه صبر واحتسب وأعطى علمه وبلده كل اهتمامه، وترك خلفه مرصد العجيري، ومركز العجيري الإسلامي بإندونيسيا وغيرهما من الصروح التي خلَّدت اسمه، بعد وفاته التي كانت في 9 رجب 1443هـ/ 10 فبراير 2022م(1).
الشيخ محمد نايل.. الصادع بالحق
في قرية دشلوط التابعة لمركز ديروط بمحافظة أسيوط، ولد الشيخ محمد نايل أحمد شرقاوي، في 2 يناير 1909م، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن الثانية عشرة، وحصل على الشهادة الثانوية عام 1931م من المعهد الديني بأسيوط، وكان ترتيبه الأول على جميع المعاهد الدينية بالقطر المصري، والتحق بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة عام 1931م، وحصل على الشهادة العالمية عام 1935م.
كان محباً للحق صادعاً به؛ ما أدى لفصله في السنة النهائية عام 1935م في حركة الطلاب ضد شيخ الأزهر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري الذي عينه الملك فؤاد وكانت سبباً في عودة الشيخ محمد المراغي شيخ الأزهر الذي أعاد قيده للدراسة مرة أخرى.
وفي عام 1943م، حصل على الشهادة العالمية (الدكتوراة) في البلاغة والأدب، وعين مدرساً بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر في نفس العام، وحصل على درجة الأستاذية عام 1961م، وفي عام 1967م عين عميداً للكلية لمدة عامين ثم أعير إلى السعودية وليبيا ليكون عميداً لكليات اللغة هناك، وبعد تقاعده عيِّن أستاذاً متفرغاً بقسم الدراسات العليا بكلية اللغة العربية بالقاهرة عام 1982م، وانضم لمجمع اللغة العربية في 16 أبريل 1986م.
كان لطبيعة شخصيته الغيورة على دينه ووطنه أن تعرف إلى الشيخ حسن البنا وجماعته «الإخوان المسلمون» بعدما لم يجد بغيته في «جمعية الشبان المسلمين»، وكان لمكانته أن اختير عضواً في مجلس شورى «الإخوان» عام 1935م، كما كانت للشيخ جهوده الكثيرة داخل الجماعة سواء في الدعوة أو الكتابة في صحفها أو إلقاء المحاضرات، أو البذل بالمال، وكان مصاحباً للبنا في كثير من مؤتمراته وأسفاره.
تعرض للاعتقال عام 1949م، وعذب عذاباً شديداً من قبل ضباط القلم السياسي؛ واتهموه في قضية مقتل النقراشي باشاً ظلماً.
كان له دور في إنشاء دار التوحيد بالطائف أثناء إعارته بالسعودية (وهي ثاني أهم المعاهد التعليمية المستحدثة في السعودية) فيما بين عامي 1949 و1951م، ودوره في إنشاء الكليتين اللتين كانتا نواة لإنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، ثم إنشاء الكلية التي كانت نواة لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، ثم دوره في إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة بنغازي بليبيا.
لقد تفاعل مع قضايا وطنه سواء القضية المصرية أو الفلسطينية، وخرج على رأس قافلة الأزهر أثناء حصار الصهاينة للسويس في حرب 1973م، فقد كان مسؤولاً عن توعية كتيبة من مدفعية «هوزر» التي تقع بضواحي السويس، وكان يرى الجند عند اشتباكهم مع جنود العدو وهم يصيحون «هه.. هه» فيقول لهم: لماذا لا تغيّرون «هه.. هه» إلى «الله أكبر»؟!
وعند غزو العراق للكويت كتب الشيخ نايل، في جريدة «الأخبار» المصرية، في 14 أكتوبر 1990م، يهاجم صدام حسين، كما هاجم الصهاينة، وظل منافحاً عن الحق حتى فاضت روحه إلى خالقها يوم الثلاثاء 18 صفر 1431هـ/ 2 فبراير 2010م(2).
محمد أمين سراج.. كبير علماء الأتراك
يعتبر الشيخ محمد أمين سراج كبير علماء إسطنبول وشيخ جامع الفاتح فيها ومُدرِّسه، ورائد الحركة الإسلامية في تركيا والمستشار الديني لنجم الدين أربكان.
ولد عام 1929م –تقريباً- في شمال تركيا ببلد العلماء تَوْقَاد في منطقة البحر الأسود، في أسرة عرفت بحبها لدينها، حيث حرص والده على تحفيظه القرآن منذ صغره رغم القيود المفروضة على البلاد في عهد حكومة الكماليين، فكان يوقظه بالليل حتى لا يراه أحد، ويبدأ معه الدرس ليلاً ويخفي المصحف عن الجنود، لكن اكتُشف أمره وسُجن وأُوذي في الله مما دفعه بعد خروجه للانتقال إلى إسطنبول، فالتحق فور وصوله بجامع الفاتح ودرس على أيدي معلميه ومشايخه، وتلقى العلم على كبار مشايخ جامع الفاتح والأزهر.
في عام 1950م رحل إلى مصر للدراسة في الأزهر، وتلقى العلم على يدي الشيخ حسنين محمد مخلوف وغيره من العلماء، وتخرج في كلية الشريعة بالأزهر عام 1958م، ولم يترك الفرصة حيث درس القضاء الشرعي بمصر.
كان من زملائه في مصر الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، والشيخ محمد علي الصابوني، والتقى بالشهيد سيد قطب وأعجب بفكره وكتاباته، وترجم تفسيره «في ظلال القرآن» إلى اللغة التركية في 16 مجلداً.
بعد عودته تصدَّر الشيخ محمد أمين سراج للتَّدريس في جامع الفاتح.
وكما اهتم بأمر دينه في بلده تركيا اهتم بشؤون المسلمين في العالم وخاصة قضية فلسطين، حيث أصدر في عام 1989م مع مجموعة من صفوة علماء العالم الإسلامي فتوى بتحريم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين.
عُيِّن الشيخ مستشاراً لرئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، لكنه بعد تجاوزه التسعين اعتزل المجالس العامة وقلل المجيء إلى جامع الفاتح، واعتزل الناس، وتفرغ للذكر والعكوف على العبادة، حتى اجتاح العالم وباء «كورونا» فأصيب به ودخل المشفى على إثره، وتوفي يوم الجمعة 7 رجب 1442هـ/ 19 فبراير 2021م(3).
_______________________________________
(1) نور الدين قلالة: صالح العجيري.. عالم الفلك الفذ، إسلام أون لاين.
(2) جمعة أمين عبدالعزيز: سلسلة أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2005م.
(3) عمر العبسو: الشيخ العلَّامة المحدّث محمد أمين سراج، رابطة أدباء الشام، 24 نوفمبر 2022م.