كل من عرفه عرف صبره على حمل أعباء الدعوة ومشاقها، بهمة عالية، ونفس مطمئنة، ووجه مشرق، وثغر باسم، لا يعرف عبارات الاعتذار، أو التذمر والشكوى من كثرة التكليفات والأعباء، حتى في الظروف الاستثنائية كالمرض مثلاً.
يكمل الأستاذ سعيد رمضان حديثه عن رحلته مع الإمام –سابقة الذكر– كاشفاً ومبرهناً على حقيقة هذا الخلق الكبير بقوله: فوجئت باليوم التالي –لانتهاء الرحلة السابقة– بأن حسن البنا دخل المستشفى، لتُجرى له عملية جراحية، فأسرعت إلى القاهرة منزعجاً، لأني تركته سليماً معافى، وعلمت حين وصلت أنها عملية «ناسور» كاد يحدث تسمماً خطراً، فأدهشني ذلك أيما دهشة، واستغربت كيف استطاع هذا الرجل الكبير أن يكبت ألمه، ويخفي ذلك عليَّ، وأنا ألازمه طوال النهار، وأقضي معه ساعات الليل في غرفة واحدة، وكيف قضى هذه الأيام الطويلة في برنامجه المضني، دون أن تتخلى عن وجهه الإشراقة الآسرة التي تدغدغ القلوب، والابتسامة العذبة التي يستقبل بها كل الناس، ودخلت حجرته في المستشفى فاستقبلني بالابتسامة ذاتها، ولم أتكلم لأني قرأت في عينيه أنه عرف ما أعني، وتكلم هو فقال: «لهذا نجحت رحلتنا النجاح الذي رأيت.. هي بركة الصبر يا سعيد..».
نعم، ببركة هذا الصبر نجحت الجهود، وبورك العمل، وتضاعف الوقت أضعافاً مضاعفة، وآتت الدعوة أكلها، طيباً مباركاً.
لا بد للداعية أن يجابه أهواءه وشهواته، يصوب نحوها سهام العزيمة والإرادة، فلا تقعده رخصة، ولا تثنيه شهوة، ولا تشغله حاجة رخيصة.
وهذه حقيقة لا بد أن يدركها الذين يتمترسون وراء الأعذار الواهية، والحجج الكثيرة المعتمدة على زخرف من القول!
لا بد أن يعلم هؤلاء أن هذه الدعوة لا تقوم على فضلات الأوقات والجهود والأموال.
لا يمكن أن تقوم قائمة هذه الدعوة برفاهية الدعاة، وتنعمهم وتلذذهم بالمباحات من الشهوات والملذات.
تلميذ آخر من تلاميذه يتحدث عن صبره، وتحمله المشاق في سبيل الدعوة، يقول أنور الجندي: كان أعجب ما في الرجل صبره على الرحلات إلى الريف، التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون الحرارة قد ارتفعت درجتها في الجنوب، وفي أحشائها ينتقل بالقطار والسيارة والدابة، وفي المركب وعلى الأقدام، وهناك تراه غاية في القوة واعتدال المزاج، لا الشمس اللافحة، ولا متاعب الرحلة، ولا وعثاء السفر تؤثر فيه، ولا هو يضيق بها.. تراه منطلقاً كالسهم منصوب القامة.. امتدت هذه الرحلة خمسة عشر عاماً زار خلالها أكثر من ألفي قرية.
يقول عنه المرشد عمر التلمساني: إذا ما أهلَّ الصيف وبدأت الإجازة السنوية، شد الرحال إلى الصعيد، بدءاً من أسوان إلى كل أحضان الجبال، بما فيها من عقارب وفئران وكفور ونجوع، على قدميه عشرات الأميال مرة، على حمار أعجف مرة، على معدية مترنحة مفككة مرة، لا يحول بينه وبين تبليغ الدعوة ونشرها بين الناس جميعاً حائل أو مانع، ويظل في هذه الرحلة المرهفة حتى تنتهي شهور الإجازة، فيعود إلى القاهرة، ليبدأ رحلة الشتاء في أرجاء الوجه البحري أيام الجمع والإجازات الرسمية.
وإني أمام هذه الحقائق لأعجب كثيراً من بعض أتباع الإمام، الذين ادعوا وصله، وأنهم على دربه، إن دعي أحدهم لإلقاء محاضرة، أو المشاركة في حفلة، أو مهرجان في غير منطقة سكنه، سأل عن وسيلة النقل التي من باب بيته تقله، وإلى الباب توصله، ثم إلى بيته آمناً ترجعه، محتفياً به وكأنه بخطابه قد حقق إنجازاً لم يسبق بمثله!