هل يعني ما نقول أن «إسرائيل» ستنهار تحت ضربات حرب التحرير الفلسطينية؟ الإجابة في تصوري بالنفي، فالتجمع الصهيوني تسانده الولايات المتحدة والعالم الغربي بأسره، بحيث إن مقومات حياته ليس من داخله، وإنما مستمدة من خارجه.
وهنا يجب أن نتناول مقولة «سيطرة اليهود» على العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة، فمن الأفكار الأساسية المسيطرة على الخطاب السياسي العربي تصوِّر أن اليهود يسيطرون على آليات صنع القرار في الولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة، بالتالي، ضحية مسكينة يتلاعب بها الصهاينة اليهود، ويتم هذا من خلال ثلاث آليات: الصوت اليهودي، الإعلام بكل أشكاله، واللوبي الصهيوني، ويُفسر دعم الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» في هذا الإطار.
ولكن الكثيرين ينسون أن الدولة الصهيونية استثمار إستراتيجي مهم بالنسبة للولايات المتحدة باعتبارها قوة إمبريالية عظمى لها مصالحها التي تحاول تحقيقها وحمايتها بأي ثمن ولا تدخر وسعاً في ضرب كل من يقف في طريقها، وتتبع إستراتيجية الولايات المتحدة من الإستراتيجية الغربية الاستعمارية العامة التي تحددت منذ منتصف القرن التاسع عشر (قبل أن يصبح أعضاء الجماعات اليهودية لاعبين أساسيين في كواليس السياسة الغربية).
وقد قررت هذه الإستراتيجية المواجهة المستمرة مع العالم الإسلامي بدلاً من التصالح أو التعاون معه (وإلا لمَ قضت أوروبا على محمد علي؟! ولمَ تم وضع اتفاقية «سايكس بيكو» لتقسيم العالم العربي؟!)، وهذا القرار قد يكون لا عقلانياً من وجهة نظرنا، ولكن من قال: إن القرارات الإستراتيجية العليا (عقلانية)، فهي تستند إلى مفاهيم لا يتم التساؤل بشأنها من قبيل الأسطورة النازية (التي نادت بأن ألمانيا فوق الجميع)، والأسطورة الصهيونية (التي ادعت أن فلسطين أرض بلا شعب)، والرؤية الاستعمارية العرقية (التي افترضت أن من حق الرجل الأبيض الاستيلاء على العالم وتوظيفه لحسابه).
وكل هذه المقولات الأسطورية التي لا أساس لها في الواقع تسبق عملية التفكير ذاتها، وبالتالي لا يمكن تغييرها إلا بجعل صاحبها يدفع ثمناً فادحاً للأسطورة.
وأي دراسة ولو مبدئية لمسألة الصوت اليهودي والإعلام من جهة وتعاظم النفوذ الصهيوني من جهة أخرى، تبين أن موقف الولايات المتحدة من «إسرائيل» وقضية الصراع العربي «الإسرائيلي» لا يتأثر في أساسياته بحجم النفوذ اليهودي.
خذ على سبيل المثال الإعلام: كانت نسبة أعضاء الجماعات اليهودية من العاملين في حقل الإعلام إلى غير اليهود كبيرة للغاية حتى أوائل الستينيات، ولكن أعداد غير اليهود بدأت في التزايد، وبدأ عدد المؤسسات الإعلامية التي يمتلكها غير اليهود يرتفع ويتسع نطاق نفوذها.
وكان المفروض، حسب تصور مفهوم الهيمنة اليهودية من خلال الإعلام، أن يتراجع التحيز الأمريكي للصهاينة، باعتبار أن ثمرة ضغط يهودي أو صهيوني، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل، بل يمكن القول: إن العكس صحيح، ويمكن أن نطرح سؤالاً: هل هناك اختلاف جوهري في موقف المؤسسات الإعلامية التي يمتلكها يهود عن تلك التي يمتلكها غير يهود؟ وهل يمكن القول بأن هذه أكثر تحيزاً من تلك؟ أعتقد أن الإجابة بالنفي، فثمة موقف أمريكي عام تروِّج له المؤسسات الإعلامية الأمريكية بغض النظر عن انتماء أصحابها الديني أو العِرقي أو السياسي، وكل هذا يدل على أنه لا توجد علاقة طردية بين تزايد النفوذ اليهودي الإعلامي وتزايد حجم التأييد الأمريكي للدولة الصهيونية.
أما بخصوص الصوت اليهودي، فالمسألة أكثر وضوحاً، فالصوت اليهودي يختلف من رئيس جمهورية لآخر، فكلينتون حصل على عدد كبير من أصوات اليهود على عكس نيكسون الذي لم يحصل على أكثر من 20%، ولكن منحنى التأييد الأمريكي للدولة الصهيونية أخذ في التصاعد بغض النظر عن عدد الأصوات التي يحصل عليها رئيس الجمهورية المنتخب، إذ توجد سياسة إستراتيجية عامة لا تتأثر بأمور جزئية مثل عدد الأصوات الذي تمنحه أقلية دينية أو عِرقية ما لرئيس الجمهورية (يلاحظ أن قرارات جورج بوش الابن لم تتأثر كثيراً بأن معظم أعضاء الأقلية الإسلامية والعربية في فلوريدا قد منحوه أصواتهم مما أدى لنجاحه).
ولنقارن موقفنا بموقف المتحدث الرسمي التركي، حينما كان دوكاكيس (وهو من أصل يوناني) قد رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، فقد سُئل: ألا تخشى الحكومة التركية من وجود رئيس جمهورية من أصل يوناني في البيت الأبيض، ومن أن مثل هذا الرئيس قد يتخذ مواقف متحيزة لليونان على حساب تركيا؟ فرد المتحدث التركي بحزم قائلاً: إن تركيا لا تخشى شيئاً، لأنه توجد ثوابت إستراتيجية تحكم سلوك وسياسات الولايات المتحدة ولا تؤثر فيها الخلفية العِرقية للرئيس الأمريكي (في الوقت الذي كان فيه بعض العرب يرتعدون خوفاً من أن كيتي دوكاكيس، زوجة المرشح الديمقراطي، يهودية).
ولو صدقت مقولة هيمنة اليهود على القرار السياسي الغربي لتناسبت درجة الدعم في دولة غربية ما تناسباً طردياً مع عدد اليهود ومدى نفوذهم، ولكن الدراسة المتأنية تؤكد أنه لا توجد أدنى علاقة، فموقف هولندا وإنجلترا يتسم بالدعم الكامل لـ«إسرائيل» بالرغم من أن الدولة الأولى لا يوجد بها يهود تقريباً، والثانية بها جماعة يهودية آخذة في التناقص، ومندمجة في المجتمع الإنجليزي وهزيلة لأقصى حد، بينما نجد أن فرنسا التي توجد فيها جماعة يهودية قوية نشطة وذات نفوذ تتخذ مواقف أكثر اعتدالاً.
وقرار الولايات المتحدة بدعم «إسرائيل» يستند إلى حسابات دقيقة داخل إطار خيارها الإستراتيجي المبدئي، فالولايات المتحدة تعطي الدولة الصهيونية ما يقرب من عشرة مليارات دولار سنوياً لحماية المصالح الأمريكية (أسعار البترول، السوق العربية، الاستثمارات الأمريكية، صفقات السلاح، الأموال العربية في المصارف الأمريكية)، والأمن الأمريكي (الحكومات العربية الممالئة للولايات المتحدة، النفوذ الأمريكي في المنطقة، التحكم في منابع البترول).
ولنتخيل الشرق الأوسط دون الدولة الصهيونية، ولنتخيل الولايات المتحدة وقد اضطرت لأن تقوم بمهمة حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية بنفسها دون اللجوء لوسيط محلي، ففي مثل هذه الحالة الافتراضية يُقال: إنه يتعين على الولايات المتحدة أن تُبقي خمس حاملات طائرات في حوض البحر الأبيض المتوسط بشكل دائم تكلف حوالي خمسين مليار دولار.
وهكذا، فالدولة الصهيونية صفقة إستراتيجية رابحة بالنسبة للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يحرص المتحدثون «الإسرائيليون» على إظهاره، ولا يملون من تكراره للحصول على المزيد من الدعم.
_______________
كتاب «من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية».