في لقائه مع “المجتمع”… قدم الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري لقراء المجتمع هذه الشهادة من التاريخ، وقد نشرت هذه الشهادة في العدد: 858 بتاريخ: 27 رجب 1408هـ الموافق 15 مارس 1988م، ولأهمية هذه الشهادة وخطورتها تعيد “المجتمع” نشرها على موقعها الإلكتروني.
عندما كان السيد قطب “رحمة الله عليه” بالسجن أرسل لنا رسالتين واحدة لم تصلنا أرسلها مع الدكتور حمدي مسعود زوج حميدة قطب وهو موجود والرسالة التي وصلتنا يقول فيها: نرجو أن تكونوا وسطاء للتفاوض بيننا وبين جمال عبد الناصر ونحن على استعداد لأن نعطي عهداً بأن لا نتصدى له وأن لا نقاومه بشيء، وكل ما نسب إلينا من هذه الاتهامات كذب وباطل وملفق، ونطلب من جمال عبدالناصر لقاء ذلك شيئا واحداً، وهو أن يخلي سبيلنا وأن لا يعوق أعمالنا ومساعينا في تتبع النشاط الشيوعي في اختطاف شباب الجامعة وشباب البلد ومركستهم.
وكل ما عدا ذلك ليس لنا وقت له؛ لأننا عندما ننهي مهمتنا يكون هو قد انتهى بطبيعة الحال، ويكون الذين يعمل لهم قد صعدوا على كتفه ورفسوه بأرجلهم وانتهوا منه.
ونحن على ثقة بأنه سينتهي تلقائياً ونحن نريد أن لا يحال بيننا وبين العمل على إنقاذ شباب هذه الأمة من الشيوعية.
حملنا هذه الفكرة واجتمعت أنا والإخوة ومن بينهم الأخ عصام عطار وإخواننا الموجودين كلهم وقلت لهم: يا جماعة هذه الرسالة وصلتنا على هذا الشكل فكيف سنتصرف؟ كان ذلك في أواخر 1965م أو أوائل 1966م.
فكرنا فيمن يمكن أن يقوم بوساطة وانتهينا إلى اختيار الجزائر وقلنا ليس هنالك غير بومدين.
واتفق الإخوة على أن أذهب أنا إلى الجزائر لأبلغ الرسالة إلى بومدين. ذهبت تحت مظلة التعزية بالبشير الابراهيمي “رحمة الله عليه” لتبليغ ثلاثة رسائل:
رسالة من الحاج أمين الحسيني “رحمة الله عليه” فيها الوثائق المصورة التي تثبت التعاقد والمعاهدة بين عبد الناصر وبين السلطة الأمريكية على تجميد القضية الفلسطينية، الرسالة الثانية من ياسر عرفات تقول إننا مخنوقون بملاحقة جمال عبد الناصر لنا ونحن خائفون من نكبة تلحق بقضية فلسطين في ظل حرب اليمن وما من دولة تعيننا غير الجزائر، وقد تغير قائد الجيش الجزائري فنرجو أن لا تتغير السياسة الجزائرية بتغيير قائد الجيش.
ذهبت إلى الجزائر، وكان في ذلك الوقت يعد لمؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء سنة 1965م.
قابلت هواري بومدين فقال لي: أنا لا أجد الوقت لأحك رأسي وقد أخذت غرفة في المطار لاستقبال الوفود القادمة والمغادرة فاذهب إلى الشريف بلقاسم وبلغه ما تريد بالتفصيل وأنا سألتحق به في الدار البيضاء وسأقوم بالواجب.
رأيت أن مثل هذه القضايا الهامة لا يجوز في ضوء الفقه الحضاري أن تترك كلاماً طائراً في الهواء فكتبت عن كل قضية مذكرة مستقلة ولا يجوز أن أذهب بمفردي فأخذت معي “مالك بن نبي” “عليه رحمة الله” وذهبنا إلى شريف بلقاسم، وجلسنا معه ما يقرب من ساعتين، فأخذ المعلومات والمذكرات وطار بها إلى الدار البيضاء، بعد ذلك رد بومدين الخبر قائلاً: إن عبد الناصر انتفض وتوتر وقال له: “كل شيء أقبل أن يبحث فيه إلا قضية الإخوان المسلمين فهذه قضية مفروغ منها وبت فيها بصفة قطعية ولا يمكن التساهل معهم”.
من الحقائق الأخرى أنني كنت سفيراً لسوريا في السعودية عام 1954م، وأن مساعي قامت بها دول عربية كثيرة من أجل التوسط لدى جمال عبد الناصر للعفو أو التخفيف عن الإخوان المسلمين المعتقلين الأستاذ الهضيبي، وعبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت، ورفاقهم، وكل هذه المساعي لم تنته إلى نتيجة إيجابية حتى أن بعض الدول رأت لتخجيله -مثل سوريا- أن تبعث له فارس الخوري الذي كان عالماً مسيحياً وقيل إنه اعتنق الإسلام بعد ذلك.
فما قبل وساطة أحد وأنا هناك أبرم الحكم بإعدامهم فطلبت مقابلة الملك سعود “رحمة الله عليه” مقابلة عاجلة.
استقبلني بعد صلاة العصر فشرحت له الغرض من طلب الزيارة وقلت له لعلك تتوسط من أجل إيقاف حكم الإعدام.
فأجابني بأنه بذل من أجل ذلك كل جهده وأنه أبدی استعداد المملكة
لاستقبال الإخوان المسلمين وأسرهم، وأن تضمن عدم قيامهم بأي نشاط سياسي ضد عبد الناصر؛ ولكن كل وساطاتي لم يستجب لها، فماذا أستطيع أن أعمل الآن؟ قلت له: يا سيدي تستطيع أن تدخرها صفحة مشرفة في سجلك ولا تضيع لك، لا بين يدي الله، ولا بين الناس، بأن ترسل سمو الأمير فيصل، وكان ولي عهده آنذاك إلى مصر قبل تنفيذ حكم الإعدام لعلهم يتوقفون.
فقال: “طيب نعمل هذا والأمر بيد الله “، بعد صلاة المغرب كان الأمير فيصل في طائرة ملكية خاصة متجها إلى مصر.
وفي الثالثة ليلاً جاءني رسول من الملك سعود يقول بأن فيصل لما وصل إلى القاهرة كان قد فات الأوان، وكان حكم الإعدام قد نفذ في الشهداء “رحمة الله عليهم” إلا الهضيبي فقد ألمت به أزمة ذبحة صدرية فنقلوه إلى المستشفى ريثما يتعافى ليعدم فيما بعد.
استطاع الأمير فيصل أن يتدخل لفائدة الهضيبي وأن يأخذ منهم عهداً بأن يخففوا حكم الإعدام عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
سر العداء الأمريكي للإخوان المسلمين!
في الصباح حوالي الساعة الحادية عشرة زارني عميد السلك الديبلوماسي في ذلك الوقت وهو السفير الأمريكي “وودس وورس” وهو رجل متقدم في السن ومعروف عنه أنه متعاطف مع القضايا العربية وأنه منطلق اللسان وخلال الحديث قال لي: “أرأيت ما فعله هذا الأحمق؟”
قلت: من؟
قال: عبد الناصر قلت: ماذا فعل؟
قال: أعدم الإخوان المسلمين ونحن لا يهمنا أمر الإخوان المسلمين كثيراً؛ ولكن بيننا وبينه معاهدة سرية بها بندان هامان: الأول تجميد القضية الفلسطينية لمدة عشر سنوات، والثاني تعطيل وإيقاف نشاط الإخوان المسلمين وفعالياتهم.
لم نقل اعمل مجزرة واذبح الناس، والآن كل من تأذى وتضرر من هذا الذي حصل سيكون عدواً لدوداً لأمريكا، وأمريكا لا يهمها هذا، ولكن ما العمل؟
قلت: ما هي قيمة الإخوان المسلمين في نظر أمريكا حتى تجعل من بنود الاتفاق السري بينها وبين عبد الناصر أن تقضي على نشاط الإخوان المسلمين.
قال: ماذا تعرف أنت عن الإخوان المسلمين؟
قلت: أعرف أنهم جمعية خيرية طيبة، تفتح مستوصفات لمعالجة الفقراء وتعين محامين أحيانا للمظلومين، وتفتح مراكز لمحو الأمية.
قال: فقط هذا؟
قلت: نعم هذا فقط.
قال: لا أنت لا تعرف.
قلت: ما هي إذن حركة الإخوان المسلمين في نظرك؟
قال: هي أخطر مؤسسة موجودة في العالم اليوم على الحضارة الغربية القائمة.
قلت: لماذا؟ من أین تصدر هذا الحكم؟
قال: هؤلاء يربون الأجيال وشباب البلد على الإسلام ويقوون مكانتهم في المجتمع ويكونون لهم قوة ضاغطة ومتحركة وكل الأشياء التي ذكرتها ما هي إلا وسائل لكي يجتذبوا بها قلوب الناس ويصلوا بعد ذلك إلى الحكم وعندما سيحكمون فإنهم سيحكمون بعقلية عمر بن الخطاب وهي الطامة الكبرى على حضارتنا القائمة، ولذلك كان هذا موقف أمريكا.
ومن ناحيتي حتى لا تضيع هذه المعلومات، أخذتها وكتبتها بتقرير سري رسمي إلى وزارة الخارجية السورية بتوقيعي والمفروض إذا كانت وثائق الخارجية السورية موجودة ومحفوظة أن تكون بينها.