إن بلاد الهند معروفة في المشرقين، لها تاريخ مشرق وماض زاهر، وفي سجل تراثها مآثر ومفاخر، نجمت على صفحتها ملل وأمم وبرزت على مسرحها ثقافات وحضارات وتآكلت فيها الديانات والمذاهب.
إن الهند مهد البوذية ولكنها لم تحظ بسعادة أكبر ونعمة أعظم من يوم أشرقت فيه شمس الإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجاً بعد أن باتت دياجير الظلم والطغيان قد خيمت واكتسح الجور والتناحر سائر الأنام، وعمّ الفساد وانتشرت الفوضى في جميع البلاد، يأكل القوي فيها الضعيف ويقهر صاحب السلطان المحكومين ويطرد أعيان الوطن المنبوذين من جماهير الشعب، ويُحرم ذوو الحق الحرية المشروعة.
أخرج الإسلام بلاد الهند من الجاهلية العمياء وأعاد إليها مجدها واسترد لها فضلها، لم يبق قطر من أقطار البلاد إلا واحتضن عدد لا يستهان به فيه بدين الله الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الطوفان الجارف الذي تقاذفت أمواجه على شاطئ البحر الهندي العربي حتى اجتاح كثيراً من المناطق، ثم تلكم العاصفة الهائجة التي هبت من بلاد السند وشمال الهند حتى فتحت باب البلاد على مصراعيه أتت إلى الأمة الهندية بالخير الكثير، وإنها تجاوبت بعناق قيم الإسلام واحتضان عقيدة التوحيد.
للمسلمين تاريخ مجيد في هذه البلاد، ولهم دور ملموس في حكمها، وقد رفرفت راية أهل الإسلام في شرق الهند وغربها وشمالها وجنوبها في القرون الأخيرة قبل الاستعمار البريطاني، وبلغت شوكة المسلمين أعلاها ورسخت دعائم ملكهم أعمقها واتسعت سلطتهم أشملها في عهد المغول -الأسرة الحاكمة لأطول فترة في الهند- الذي امتد حوالي 3 قرون في أجزاء كبرى لشبه القارة الهندية.
كان عهد البريطانيين مليئاً بالدسائس والمكايد ضد المسلمين أكثر منها لغير المسلمين من الطوائف الأخرى؛ لأنهم سلبوا الحكم من أيدي المسلمين، ويخافون أن يستردوا حقهم بقوة، وكان من أهم حيل الإنجليز أن يستدام حكمها وتستطيل سيادتها على البلاد بتفريق المواطنين على أساس انتماءاتهم للدين واللغة، فأثاروا الهندوسيين ضد المسلمين واستهووهم بدسّ المؤامرات لاستنفارهم إلى مواجهة المسلمين حتى لا يعود لهم سلطان عليهم من جديد، وشوهوا صور الملوك المغول أمامهم وحرضوهم على أخذ الثأر منهم.
لقد تحررت البلاد من أيدي الإنجليز بجهود مشتركة مكثفة للمسلمين وغيرهم، ولكن البذرة النتنة الفتانة للتفريق غرست في أرض الوطن وسقيت بالاشتباكات الطائفية بين الفينة والأخرى حتى أصبحت اليوم دوحة كبيرة مترامية الأغصان.
لقد بلغ التناحر مبلغه وأوغر القوم على عموم البلاد إذ هدم مسجد بابري في مدينة أيودهيا بولاية أوتاربراديش، في 6 ديسمبر 1992م، وهددت الاشتباكات الطائفية أمن البلاد وأدمت المدن والقرى وأقام الحواجز المرتفعة بين المذهبين الإسلام والهندوسية، بدأ المواطن يشكو في أخيه المواطن إن كان لا يوافقه في الدين ولو كان جاره وشريك تجارته، كل ينظر إلى الآخر شزراً ويخشى منه الخيانة والجفاء.
في هذه الأوضاع القاتمة والظروف الحالكة نشط أهل الإصلاح وقام أهل الخير بسد الفجوة وإزالة الحواجز وردّ الشبهات وتصحيح المفاهيم الخاطئة وحاولوا قدر المستطاع لاستعادة الثقة بين أفراد الشعب، وتحسين الجو وإصلاح البيئة في الوطن، لا أقول: إن المحاولات الجادة ذهبت سدى ولم تثمر الجهود المضنية، كما إني لا أجد مبرراً لادعاء أن الجو أصبح آمناً ونجحت الجهود في إنشاء بيئة تسودها الأخوة الوطنية وتربط بين أفرادها آصرة المودة الشعبية، بل الواقع يكذب هذا الادعاء والتقارير لارتفاع نسبة العداء بين أهل الأديان تفند هذه الدعوى.
في الآونة الأخيرة وبالتحديد في العقد الثاني للقرن الراهن امتلأ الوطن بالحقد والضغينة والشحناء ضد المسلمين، حيث تفاقمت قضايا الهجمات ضدهم، وأعدم الغوغاء عدداً كبيراً من المسلمين من دون محاكمة، والاعتداءات السافرة على المحجبات من بنات المسلمين، وتمرير القوانين المعادية لأهل الإسلام، والتدخل غير المشروع في الأحوال الشخصية لمسلمي الهند، وما إلى ذلك من الانتهاكات الصريحة للتعايش السلمي في البلاد.
إذا دققت النظر في كل هذه القضايا وحللتها تحليلاً عميقاً لترى أن الفئة المتسلطة تدفع التيار نحو التفريق المذموم بين أديان الشعوب وإثارة جو التناحر والتباغض لكسب المنافع السياسية، وتقوم بدور الممثل للإنجليز، وتتلمذُ على الصهاينة المتمردين، وإن الأيديولوجية المتطرفة التي أصبحت بسوء الحظ سائدة نافذة تدير كل شؤون الجمهورية من النظام التعليمي والإداري والقانوني، وتدعم كل الإجراءات القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تدحر المسلمين إلى حضيض المذلة والانحطاط وتوسع الفجوة بين المسلمين وغيرهم وتزيد الكراهية بأبناء الإسلام.
هذا هو نذير خطر لمن تهمه قضايا المسلمين في العالم، وهذا وضع غير مألوف وغير صالح لأمن القارة الآسيوية، لأن النار إذا اشتعلت تعدت إلى حواليها ولا تبقي ولا تذر، ولا تخمد في مكانها إلا إذا عولجت بكل الطرق الناجحة لإطفائها، ولكن الذي زاد الطين بلة هو الإعلام المنحاز وغير المحايد الذي أصبح اليوم رمز العار ووصمة الخزي لعدم شفافيته في تغطياته الإعلامية وإثارته الكراهية ضد المسلمين.
وفي الختام، ألفت اهتمام مسلمي الهند إلى دورهم المرجو في هذه الأوضاع العصيبة للتحرر من التبعية ولتغيير تيار العصر المعادي، يجب عليهم العمل في محورين مهمين:
أولهما: تكثيف الجهود وتكاتف المؤسسات والهيئات للتمثيل العالي والممتاز للمسلمين في الجهة الإدارية للوطن وفي الجبهة الإعلامية بكل اللغات المحلية، ولكن الأمر الذي ينبغي مراعاته في هذا الشأن أن يكون هذا التقدم والإنجاز بالجيل الذي تربى على ثقافة الإسلام وتكونت شخصيته الفكرية بالانتماء المستميت إلى قداسة شريعة الله الخالدة ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم الخاتمة.
وثانيهما: الانطلاق المتدفق والانبعاث الحماسي والثورة الملموسة في توجيه الخطاب الديني إلى غير المسلمين علناً وجهاراً وبحكمة وموعظة حسنة، لقد آن الأوان أن يصدع بالحق وأن يجادل بالتي هي أحسن اغتناماً بالحوار الديني السائد في البلاد، وأنا أثق صدقاً بأن البذرة للتفكر والتعقل والتدبر إذا غرست في أذهان النشأ الحديث للمقارنة بين المعتقدات الدينية والتقاليد التعبدية لأذعنت حتماً لفضل الإسلام وسخافة أوهام الشرك والخزعبلات، أنا أعرف جيداً أن إحداث الرواية الجديدة وكسب الأفكار وجلب حديث الناس للحوار حولها عسير جداً، وبخاصة إذا كانت فيه معارضة للتيار الجاري، ولكن بعقليتي التي تكونت بدراسة سير الأنبياء والمرسلين عليهم السلام هذا هو الوقت الصحيح، وتلك هي الفرصة السانحة للضرب على الوتر الحساس، ولصرف عقول الناس إلى دراسة تحليلية للمعتقدات الموروثة، وأحسب أن الكراهية ضد المسلمين لا تسبب حجاباً أو عائقاً لهذه الدراسة، بل تستغل هذه الكراهية بالمسلمين لصالح دراسة الإسلام، وخير شاهد على ذلك المجتمع الغربي الذي أقبل إلى معرفة الإسلام إقبالاً ملموساً بعد أن شوهت صورته واتهم بتهم الإرهاب والعنف والخطر على العالم.
على الرغم من الهجمات على الإسلام وتعاليم الدين الحنيف وأحكام الشريعة المطهرة ينبغي للمسلمين أن يتهيؤوا بكل المقدرة لتمثيل الإسلام بكل أشكاله في حياتهم الاجتماعية، وأن تصبح هذه الهجمات في صالح التدين فيهم وتزيدهم تصلباً وتمسكاً بثقافة الإسلام كي يستميتوا في سبيل الدفاع عن شريعتهم ودينهم، وهذا الأخير هو أساس القوة ومنبع الفضل ومفتاح الغلبة.