في 27 رجب 1342هـ/ 3 مارس 1924م، تُصدر الجمعية الوطنية التركية مرسوماً بإلغاء الخلافة العثمانية، إعلانٌ قُوبل باستهجان في العالم الإسلامي، ومحاولات ضعيفة، لم يكتب لها النجاح، لإعادتها، لكن هذا السقوط المدوي أنتج توترات في الهوية، بدءاً من تركيا ذاتها، إلى الأقليات المسلمة في أوروبا وآسيا، إلى الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة، لتبدأ رحلة البحث عن هوية جديدة.
سبق استبعادَ الإسلام، بقرار فوقي عام 1924م، من تكوين الهوية التركية، مساعٍ لبناء هوية قومية تركية لتحل مكان الهوية الإسلامية، ففي أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت «الطورانية» كحركة سياسية سرية قومية، تدعو لتوحيد العنصر التركي، وقد أدى اليهود(1) دوراً في الصياغة الفكرية والتنظيمية للحركة، التي اعتبرت الإسلام عائقاً في بناء الهوية التركية، ورأت أن الإسلام يفتح الهوية التركية على مكونات غير تركية؛ لذا أخذت الطورانية تنبش الماضي لتبني حضورها الهوياتي بين قبائل المغول في آسيا.
أتاتورك شرع في النزع القهري للهوية الإسلامية والعثمانية بمشروع علماني استبدادي
ومع انتخاب مصطفى كمال أتاتورك رئيساً لتركيا عام 1923م، شرع أتاتورك في النزع القهري للهوية الإسلامية والعثمانية، من خلال مشروع تحديثي علماني استبدادي، يستبعد مظاهر الهوية الإسلامية في الزي والقوانين واللغة والتعليم ومؤسسات الدولة، فقد نظر أتاتورك للإسلام كتهديد مركزي للهوية التركية الجديدة؛ لذا كانت حربه على كل عناصر الهوية الإسلامية قمعية واستئصالية، فسعى لإزاحة الإسلام من المجال العام، من خلال القطيعة الكاملة مع الماضي العثماني بكافة إنجازاته وإخفاقاته.
توترات هوياتية
لكن الجراحة الأتاتوركية للهوية العثمانية أنتجت توترات هوياتية في تركيا الجديدة، فتشكلت قوى وحركات إسلامية سرية حافظت على الهوية الإسلامية، ومارستها بعيداً عن رقابة الدولة، وكانت تحدياً للعلمنة القسرية، ومناقضة للهوية الجديدة، وكذلك مواجهة حركات انفصالية داخلية، أبرزها حركة الشيخ سعيد بيران، وهي انتفاضة في المناطق الكردية ضد الحكم التركي، رفعت شعار «لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية»، لكنها انتهت بإعدام بيران في 30 يونيو 1925م، فكان ذلك أحد تجليات توتر الهوية التركية التي سعى أتاتورك لفرضها قسراً.
.. ما أنتج توترات هوياتية فتشكلت حركات إسلامية سرية حافظت على هويتها
ومن ناحية أخرى، وجدت الهوية التركية الجديدة نفسها أمام تحدٍّ آخر، وهو قبول مئات الآلاف من ذوي الأصول التركية الذين طردوا من أوطانهم لانتماء غالبيتهم للإسلام، فاستقبلت تركيا مئات الآلاف من الذين طردوا من الاتحاد السوفييتي واليونان ويوغوسلافيا والبلقان، فقد شكل إلغاء الخلافة أزمة هوية ووجود لكثير من الأقليات المسلمة في آسيا وأوروبا، وبخاصة أقليات الاتحاد السوفييتي واليونان وألبانيا والبلقان؛ إذ كانت تلك الدول تُكنّ عداءً عميقاً للعثمانيين، فـحُوربت الهوية الإسلامية؛ مما وضع تلك الأقليات أمام أزمة هوياتية، وأمامها خيارات كلها مُرة، فإما أن تنخلع من هويتها الإسلامية، وتنتمي لهوية جديدة سواء في المسيحية أو الشيوعية، وإما الإبادة، وإما التهجير.
كان الأوروبيون يرحبون بأن تعود الهوية الأوروبية مسيحية لا حضور للمكون الإسلامي داخلها، ومن ثم كان الصمت الأوروبي عن القمع الوحشي الذي حاق بتلك الأقليات، وزاد من معاناة الأقليات أن أغلب الأنظمة التي تشكلت في البلقان وأوروبا الشرقية بعد سقوط الخلافة كانت شيوعية، فشُنت حرب قاسية على هوية الأقليات المسلمة، لمسخها واستبدال هوية أخرى بها، ففي ألبانيا، ورغم أن المسلمين كانوا أغلبية فيها، فإن نظام الملك أحمد زوغو، الذي وُصف بأنه «أتاتورك ألبانيا»، سار على نهج أتاتورك في محاربة الهوية الإسلامية، فألغى الحجاب والتعليم الإسلامي، وحارب كل مظهر للهوية الإسلامية.
كذلك كانت هناك عمليات تصفية لكل مظاهر الهوية الإسلامية في البلقان، فوقعت بلغاريا مع تركيا اتفاقية في أكتوبر عام 1925م، جرى بمقتضاها تهجير الكثير من مسلمي بلغاريا إلى تركيا، فخلال 10 سنوات غادر 35% من مسلمي بلغاريا بلادهم، وقدرت الأعداد بحوالي 218 ألفاً، كما تم تهجير 384 ألفاً من اليونان، كما توافد الأتراك المسلمون من مقدونيا عام 1924م، وتم تهجير 305 آلاف من يوغوسلافيا.
الهوية التركية الجديدة واجهت تحدي قبول الأتراك المسلمين الذين طُردوا من أوطانهم
وحسب الإحصاءات التركية، فقد قدم أكثر من 800 ألف شخص من البلقان إلى تركيا في الفترة ما بين عام 1923 و1945م، كما توافدت هجرات من تركستان الشرقية بعد الاحتلال الصيني.
القومية العربية
وعربياً، تسببت أزمات الخلافة العثمانية بتوترات في الهوية بالمنطقة العربية، ونشأت أزمة الهوية بين مسيحيي الشام، في البداية، الذين بحثوا عن هوية للانتماء، ووجدوا ضالتهم في القومية العربية، متأثرين بالتجربة الألمانية التي اتخذت من اللغة مركزاً لبناء الهوية القومية، ومن ثم ظهرت الجمعيات القومية السرية العربية المناهضة للأتراك وسياسة التتريك في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، وظهر كتَّاب «إحياء الأمة العربية» عام 1905م، وهو أول كتاب يحمل مصطلح «الأمة العربية» صراحة، كتبه بالفرنسية نجيب عازوري، داعياً إلى انفصال العرب عن الدولة العثمانية.
جرى دمج بين الأفكار القومية العربية والعلمانية لبناء هوية جديدة مستلهمة تجارب أتاتورك
وقد جرت عمليات دمج بين الأفكار القومية العربية والعلمانية والتحديث لبناء هوية عربية جديدة، ومع إلغاء الخلافة كانت بعض الهويات القُطرية أخذت في التشكل، خاصة مع دولة الاستقلال، كما استلهمت تجارب عربية أفكار أتاتورك في الإعراض عن الإسلام في بناء الهوية القُطرية؛ لذا تحولت الدولة القومية إلى أداة لتفكيك الهوية، مع لجوئها للعنف لقمع الهويات الأخرى.
ولم تستطع الهوية القومية المستحدثة أن تكون بوتقة للهويات المتنوعة في المجتمع، فكانت التوترات عميقة، وكان القمع عنيفاً، لكن الضربة القاصمة التي أُصيبت بها القومية كهوية بديلة، جاءت مع انهيار الوحدة المصرية السورية عام 1961م، إذ يتشابه هذا الانفصال في تأثيراته على القومية تأثير انهيار الخلافة عام 1924م، فمع انهيار الجمهورية العربية المتحدة عام 1961م، انصرف العرب إلى البحث عن هوية تخص كل دولة، دون البحث عن هوية جامعة.
_____________________
(1) كان من أبرز اليهود الذين صاغوا البناء النظري للطورانية المجري أرمنيوس فامبيري، الذي قال صراحة: «الإسلام ينافي الوطنية»، واليهودي الألماني ألبرت كوهين الذي تنكر تحت اسم تركي هو تكين ألب وكتب: «يجب أن نكون أنفسنا.. إن جيلنا بالكامل ليس تركياً، ويجب تأسيسه وإصلاحه على أسس جديدة».