تؤكد التطورات الحالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن سلطات الاحتلال قد أصيبت بحالة من السعار، فعلى الرغم مما تلاقيه من تصدٍّ استثنائي في قطاع غزة من قبل المقاومة الفلسطينية، فإنها تفتح المزيد من الجبهات، وتسعى إلى تعزيز سياسات التهويد و«الأسرلة» والاستيطان، مدفوعة بأوهام الصهيونية الدينية، ومشاريعها المتمثلة بالإحلال الدينيّ في القدس و«الأقصى».
ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، الذي يُعدّ أبرز مواسم الرباط في «الأقصى»، والاعتكاف في جنباته، بدأت سلطات الاحتلال محاولة فرض القيود على الفلسطينيين، بناء على رؤية هذا اليمين، ومدفوعًا برغبة الانتقام من «الأقصى»، وموقعه الأساسي في انطلاق معركة السابع من أكتوبر، وما يتصل بهذه الرغبة من تحقيق المزيد من المكاسب على أرض الواقع.
قيود مرتقبة في رمضان
سنورد أبرز ما تم الإعلان عنه من تفاصيل القيود التي ستفرضها سلطات الاحتلال، ولكن ما أهداف الاحتلال من تصعيد القيود على المسجد، في وقتٍ يخوض فيه جيشه معارك شديدة في قطاع غزة، ومؤشرات التصعيد في الضفة لا يُمكن التغافل عنه؟ يمكن أن نعيد التصعيد إلى ثلاثة أسباب رئيسة، وهي:
1- ترسيخ العقاب الجماعي على المصلين وعلى «الأقصى»، ردًا على عملية «طوفان الأقصى»، وما حققته من ضربة نوعية لأمن الاحتلال ومنظومته الأمنية، وعلى الرغم مما تقوم به قوات الاحتلال، من مجازر فظيعة، وانتهاكات وحشية في غزة.
2- تأتي هذه الإجراءات مدفوعة من الصهيونية الدينيّة، التي تشكل جزءًا مهمًا من حكومة نتنياهو، وتُشير التطورات إلى أن دعم الصهيونية الدينية المطلق لمخططات نتنياهو، وطريقة إدارته للحكومة عامة وللحرب خاصة، ثمنها إعطاؤها المزيد من الصلاحيات في القدس و«الأقصى»، وأن يُطلق نتنياهو يد وزرائه في تهويد المدينة عامة والمسجد الأقصى على وجه الخصوص.
3- تصعيد العدوان على «الأقصى»، في سياق متصل بفرض المزيد من الحصار على المكون البشري الإسلامي، في مقابل فتح المجال أمام أعداد أكبر من المستوطنين لاقتحام المسجد، ويشكل رمضان معضلة أمام هذه الإستراتيجية، إذ يشهد هذا الشهر حضورًا إسلاميًا كثيفًا، ويصل عدد المصلين في أيام الجمع وليالي القدر إلى عشرات الآلاف.
دأبت أذرع الاحتلال التحضير للتصعيد في رمضان مبكرًا وخاصة من قبل «منظمات المعبد»، ولكن اللافت في هذا العام أن المستوى الأمني كان أول من بحث هذه القضية، ففي أواخر يناير الماضي كشفت مصادر عبرية عن اجتماع ضم قيادات في شرطة الاحتلال وجيشه، لبحث دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان والتجهيزات لذلك.
وبحسب المصادر العبرية، فقد أوصت شرطة الاحتلال بمنع دخول الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى القدس و«الأقصى»، وشهد الاجتماع تباينًا بين موقف وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، وموقف جيش الاحتلال، إذ طرح الأخير بأن منع الفلسطينيين من الضفة من الدخول سيزيد التوترات في القدس والضفة الغربية المحتلتين.
ولم تتأخر قرارات التقييد في رمضان عن الظهور، ففي 18/ 2/ 2024م وافق رئيس وزراء الاحـتلال بنيامين نتنياهو على اقتراح بن غفير، الذي يقضي بتقييد دخول فلسطينيي الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948م إلى المسجد الأقصى خلال رمضان.
وبحسب ما نشرته مصادر عبرية عن هذه القيود، سيتم منع الفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة من دخول القدس بشكلٍ كامل، إلى جانب تشديد القيود على الفلسطينيين من القدس والأراضي المحتلة عام 1948م، من خلال منع كل من يتراوح عمره ما بين العاشرة والستين عامًا من دخول «الأقصى»، إلى جانب استمرار فحص بطاقات الهوية عند أبواب المسجد، ولن تقف اعتداءات الاحتلال عند هذا الحدّ، إذ ستنشر شرطة الاحتلال قوة دائمة لها داخل المسجد الأقصى طوال شهر رمضان، بذريعة «التحرك السريع للتعامل مع التحريض أو إحباط مظاهر الدعم لحركة حـمـاس»، بالمقابل لن تفرض شرطة الاحتلال أي قيود على اقتحام المستوطنين لـ«الأقصى»، وخاصة في «عيد المساخر» الذي يأتي في 24 مارس 2024م.
ويمكن اختصار القيود التي ستفرض بالنقاط الآتية:
– استمرار عرقلة وصول المصلين إلى «الأقصى»، من المقدسيين أو الفلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1948م.
– مضي اقتحام المستوطنين لـ«الأقصى» بشكل شبه يوميّ.
– فرض منع شامل للفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة من دخول القدس و«الأقصى».
– محاولة منع الاعتكاف في ليالي رمضان، من خلال القيود والتهديد.
الاعتكاف في «الأقصى» «إخلالٌ بالنظام»
وعلى الرغم من عدم إعلان أذرع الاحتلال صراحة عن منع الاعتكاف في رمضان، فإن سياسات الاحتلال في السنوات الماضية تشير إلى محاولات الاحتلال فرض نفسه المتحكم الوحيد، إذ سعت في العام الماضي أن تفتح أبواب «الأقصى» أمام المعتكفين في الليالي التي لا تشهد في الصباح التالي اقتحامات، أي ليلتي الجمعة والسبت من كل أسبوع، أي أن الاحتلال يسعى إلى أن يظل «الأقصى» خاليًا من المرابطين بالتزامن مع اقتحامه، وفي العامين الماضيين شهدت ليالي رمضان قمع المعتكفين، وإخراجهم من «الأقصى».
وتُشير المعطيات إلى عمل قوات الاحتلال على ترهيب الشباب الفلسطيني لئلا يُشارك في الاعتكاف في «الأقصى»، ففي 19/ 2/ 2024م اقتحمت قوات الاحتلال بلدة جبل المكبر، ونكلت بالفلسطينيين، ونشرت ملصقات تهددهم في حال «الإخلال بالنظام» داخل «الأقصى» خلال رمضان، وورد في الملصق: «نعلمكم أننا لن نسمح بتكرار ما حدث في شهر رمضان الماضي، ولن نتساهل مع أي عنف في أي زمان ومكان، وسنعمل بكل الوسائل اللازمة للقضاء على خرق القانون»، وهو ما تكرر في 26/ 2/ 2024م فقد وزعت شرطة الاحتلال إخطارات في العيسوية، تضمنت تهديدًا للشبان المقدسيين، وتحذيرًا من المشاركة في الاعتكاف، موقعة باسم مستعار لأحد ضباط مخابرات الاحتلال.
وتُشير هذه التحضيرات إلى سعي الاحتلال ليفرض وقائع جديدة في «الأقصى» مع حلول رمضان، فيما يتخوف متابعون لشؤون القدس من تحول هذه القيود إلى سياسة دائمة، وأن تفتح شهية الاحتلال أمام فرض المزيد من السيطرة على المسجد في سياق استراتيجية الاحتلال للتقسيم المكاني لـ«الأقصى».
تصعيد للحصار والرقابة
تتلاحق مؤشرات التخوف في شهر رمضان، فمن دعوات عدد من السياسيين الصهاينة كف يد بن غفير عن أي قرارات لها علاقة بالقدس والأقصى، وما يتصل بالخلاف الداخلي لحكومة الاحتلال، وصولًا إلى استعدادات شرطة الاحتلال لمراقبة المقدسيين في المسجد الأقصى، وحول أبوابه، ومن أبرز أدوات الرقابة الجديدة، ففي 26/ 2/ 2024م كشفت مصادر مقدسية بأن شرطة الاحتلال أنهت أعمال نصب برج تجسسٍ فوق المدرسة التنكزية، المُطلة على المسجد الأقصى، وبحسب القدس البوصلة يضم البرج أدوات رصدٍ ومراقبة، ما بين كاميرات وأجهزة رصد وغيرها، وربط متابعون للشأن المقدسي، ما بين نصب البرج وتحضيرات الاحتلال لفرض المزيد من القيود على «الأقصى» في شهر رمضان المبارك.
أخيرًا، وأمام جملة المعطيات السابقة فإن الاحتلال يتوقع تفجرًا للأحداث في القدس والضفة المحتلتين قبل غيره، وهو ما يُشير إلى إصرار بن غفير على المضي في هذه الإجراءات، ما يعني إمكانية تفجر الأوضاع في حال إصرار الاحتلال على تنفيذ هذه القيود، وتصاعد تدنيس المسجد الأقصى في أيام رمضان، وما يتصل بهذا التصعيد من مواجهاتٍ وعمليات فردية وغير ذلك، وما تحمل هذه التطورات من احتمالات كثيرة، خاصة بأن تفجر الأوضاع في القدس له اتصال شديد بما يجري في غزة والإقليم.