ما من أمة أصيلة بدون جذور، والتراث هو الجذور التي تمتد لتصل إلى ثمار الحاضر، يبدو كلوحة فنية بديعة تعكس ما وصلت إليه الأمة من رقي وتحضر على كافة المستويات، وبمعنى آخر هو الأساس الذي تنطلق منه إبداعات الأمة وتتألق من خلاله قيمها وحضارتها، ولهذا تجتهد الدول التي تريد لنفسها مكانة رفيعة بين الدول أن تغرس في نفوس أبنائها الاعتزاز بتراثهم.
وتراثنا الإسلامي ثروة عظيمة تمثل هويتنا، وثقافتنا، وتاريخنا؛ فهو الذي يربط الجذور بالفروع، ومن خلاله نتعرف على قيمنا ومبادئنا وأسلوب حياة أجدادنا، الذين فتحوا الدنيا ونشروا رسالة الإسلام في بقاع الأرض.
ومن الطبيعي أن نجد أعداء الإسلام من كل الاتجاهات والأيديولوجيات يعمدون بألفاظ مرصعة، وانتقاء كلمات تتميز بوقعها على مسامع الشباب إلى تشويه التراث، وفصل أبناء الأمة عن تراثهم، فلا يكون له وجود في حاضرهم فضلاً عن مستقبلهم، لقناعتهم بأن استدعاء التراث النقي يمثل خطورة على مكانتهم الاجتماعية ووجاهتهم وأفكارهم.
صحيح أن تراثنا لا يخلو من بعض الشوائب، ومن المؤكد أن علماء الأمة على مر العصور لا يكفون عن تفنيد هذه الشبهات، لكن أعداء الدين لا يقصدون بتشويه التراث مرحلة زمنية ما، بدا فيها ضعف المسلمين أو تشتتهم، بل يذهبون إلى زمن نزول الرسالة المحمدية وحتى وقتنا الحاضر، ويصل تشويههم إلى اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والذاكرة الفقهية التي تشكلت وفق معطيات البيئة السياسية والاجتماعية.
والعجيب أن كثيراً من الذين ينادون بالقطيعة مع التراث هم أنفسهم الذين انفرجت أَسارير وجوههم حين وجدوا ما كانوا ينادون برفضه موجوداً بتراث الغرب! ما يعكس لديهم اضطراباً في الموازين والمعايير، وتذبذب القيم، ويعكس في الوقت نفسه الحقيقة التي لا جدال فيها؛ وهي أن سعي المنادين بالقطيعة مع التراث نابع من حرصهم على إضعاف البعث الديني الذي يستند إلى التراث.
ولما كانت اللغة العربية هي لغة المصدر الأول للتشريع ووعاء الإسلام، سعى أعداء الدين لتشويه اللغة العربية أو التقليل من تقديسها؛ ليسهل بعدها ضرب مقومات الأمة الإسلامية، مستغلين الإعلام بكل مشتملاته، ومن يتأمل واقع الأفلام والمسلسلات قديماً وحديثاً يدرك ذلك جيداً، حيث برع كثير منها في الاستهزاء باللغة العربية وإغراء الشباب بمظاهر الحضارة الأوروبية التي تألقت بسبب انسلاخ الغرب عن ماضيه، في حين أن الغرب لم ينهض بالأساس إلا بارتباطه بماضيه وتوثيق صلته به.
تأمل على سبيل المثال فيلم «الأيدي الناعمة»، حيث دخل الرجل الذي قرأ الإعلان المتعلق بسكن مجاني بإحدى السرايات علي أحمد مظهر صاحب القصر الذي لا يجد ما يطعم به نفسه، وحصل مشهد ما فتئت ذاكرتي الضعيفة تذكره!
سأل الرجل صلاح ذو الفقار عن مهنته فأجاب: دكتور، ففرح الرجل لأنه سيجد مع الإقامة المجانية في القصر طبيباً يعالجه بالمجان أيضاً، فأفسد ذو الفقار على الرجل فرحته، وأعلمه أنه دكتور في «حتى»، ثم ضرب له مثلاً فقال: «أكلت السمكة حتى رأسها»، وانتهى المشهد بجملة قالها الرجل الذي يريد السكن المجاني لا تخلو من سخرية: «والدكترة بتاعتك دي مقلية ولا مشوية»!
هنا لم تنته الكوميديا، فقد حمل لواءها «الزعيم» لتبدأ فصول مسرحية هزلية، ما زلنا نعيش فيها حتى الآن!
في الواقع، جل مشاهد السينما تسخر من اللغة العربية، كما تسخر من المأذون الشرعي، كما هي الحال في كثير من مظاهر حضارتنا الإسلامية والعربية.
اللافت أن تلك السخرية تجد لها صدى كبيراً في نفوس أبناء العربية، ولا يخلو الأمر من جهل.. وغباء!
على الجانب الآخر، وفي مكان غير المكان، وزمان غير الزمان، كان رجل يلقب بإمام النحاة يدعى سيبويه، مؤلف المرجع الأعظم في علم النحو «الكتاب»، يردد قبل موته أمام الجالسين حوله من علماء اللغة وأصدقائه وأقاربه: «أموت وفي نفسي شيء من حتى»، ذلك أن تلك الكلمة تحديداً قد حيَّرت النحاة الذين جاؤوا قبله، وأتعبت الآتين بعده، فهي تعمل كأداة نصب، وأداة رفع، والغريب أنها تعمل كأداة جر!
اللغة العربية ليست وسيلة للتخاطب والإبداع فقط، بل هي الوعاء التاريخي والحضاري والثقافي والروحي لأمة الإسلام، ولهذا فهي الوجهة التي تصوب نحوها سهام الأعداء لعلمهم أن تشويهها وتنفير أهلها عنها كفيل بهدم بقية أركان التراث، لأجل ذلك فإن الحفاظ على اللغة العربية مطلب من المطالب الملحة، ذلك أنها الطريق المختصر لاستعادة الهوية، والتسليم المطلق لمحاولات الاعتداء عليها ضرب من الجنون، فلا أقل من تنشئة جيل إذ لم يتعلمها فلا ينفر منها ولا يستهزئ بها ولا من المتحدثين بها!
إن تراثنا الإسلامي لا يمثل مشكلة تعرقل تقدم الأمة، بل القطيعة معه هي التي تؤدي بنا جميعاً إلى طريق الهلاك والضياع، وذلك لأننا لن نتمكن من التعرف على مراد الله منا إلا من خلال التراث، ولن نفهم كيف عاش النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن ثم تطبيق الدين في حياتنا لنسعد ونُسعد غيرنا إلا بتوثيق علاقتنا مع التراث، ولم نتمكن من حل مشكلات الحاضر والمستقبل إلا بالاطلاع على تجارب من سبقونا، وتربية أبنائنا على حب التراث تقتضي الآتي:
– أن نكون قدوات صالحة لهم، بحيث يتجسد في سلوكياتنا ما كان عليه السلف الصالح من قيم ومبادئ، ونظهر حبنا أمام أبنائنا للتراث من خلال الاطلاع على تاريخنا الإسلامي، وزيارة المواقع الإسلامية محلياً ودولياً إن توفرت الإمكانات لذلك.
– اختيار قصص مسلية تحكي عن أبطال أمتنا وكيف ساهموا في الحضارة الإنسانية.
– مشاهدة أفلام وثائقية وسينمائية كفيلم «محمد الفاتح»، وفيلم «عمر المختار»، وغيرهما من الأفلام المصنوعة بإتقان.
– تخصيص كتب للمراحل العمرية المختلفة تربطهم بالتراث فضلاً عن تشجيعهم على البحث والتعلم الذاتي.
– ترغيب الأبناء في التحدث بالعربية والاعتزاز بها، وتخصيص وقت محدد يومياً أو أسبوعياً للحديث بالفصحى داخل البيت، مع التنبيه على عدم استعمال كلمات ومصطلحات أجنبية كبديل للألفاظ العربية.