الإصلاح الفردي بوابة النهضة الكبرى للمجتمعات، فإذا كان الفرد أصغر وحدة من وحدات بناء المجتمع، فإن صلاحه والنهوض به وتحويله لإنسان ذي قيمة عالية يأتي على رأس أولويات النهوض.
وفي الوقت الذي يحتل فيه الإصلاح الفردي هذه المكانة الحيوية في صناعة النهضة، فإن العمل عليه هو الأكثر يسراً إذا توفرت النية الصادقة والطاقة الحقيقية.
ويمكننا في هذا الصدد أن نرصد 5 مسارات أساسية تدور عليها محاور الإصلاح الفردي.
1- العلاقة بالله عز وجل:
تأتي العلاقة بالله سبحانه وتعالى على رأس الأولويات، فهي أول المسارات التي ينبغي للإنسان أن يسعى لإصلاحها والاهتمام بها، ولا يمكن أن تكون هناك ثمة نهضة لا تحتل فيها العلاقة بالله سبحانه وتعالى حجر الزاوية، فمهما حقق الإنسان من نجاح في باقي المسارات سيظل جزء عميق من روحه في حالة من القلق والحيرة والخوف.
طبيعة الحياة أنها لا تستقر على حال واحدة، وهناك حتمية الموت والفقد، وهي أمور يمكن تجاهلها بعض الوقت، لكن حتماً في لحظة ما يتم الاصطدام بها، وتبدو الحياة قاسية، بل في غاية القسوة، أو كما يصفها البعض أنها ليست عادلة إذا غابت العلاقة الحقيقية مع الخالق، فكل العبادات إنما شرعت لفتح مسارات لرابطة قوية بين الإنسان وخالقه وخالق هذا الكون تمنح الإنسان الرضا والسكينة في حالتي الفرح والحزن، السراء والضراء؛ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130).
وهذا المسار الذي افتقده الإنسان الغربي الذي قطع مسافات في بقية المسارات الإصلاحية ولكنه تعثر في علاقته بالله عز وجل، ولأن الروح لا تحتمل هذا الجفاء المادي كان التخبط بين اعتناق الفلسفات الروحية الشرقية القديمة التي لاقت رواجاً كبيراً، والإغراق في المتع المادية المبهرة وربما الشاذة حتى يتم التعمية على هذا الشعور بالفراغ العميق.
2- العلاقة بالنفس:
معرفة النفس والوعي بالذات المسار الثاني من مسارات النهضة الذاتية، هذه المعرفة تعد من أهم الطرق التي توصل لمعرفة الرب؛ (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21).
وهناك علاقة جدلية بين الاستبصار بالنفس والعلاقة مع الخالق، فكما أن الاستبصار الحقيقي والعميق بالنفس يقود للإيمان، فإن الإيمان بالله عز وجل يصلح ثغرات النفس ويمنحها الفرصة للتشافي والتعافي، فداخل كل إنسان كهوف مظلمة من تجارب قديمة بائسة أو مخاوف تعبث بروحه أو حزن كئيب أو قلق يهدد أمانه، رغبات مكبوتة أو أحلام مجهضة أو مشاعر غيرة وحسد أو شعور بالخذلان وغياب الدعم أو حتى مشاعر مظلومية حقيقية أو متخيلة، كل هذه المشاعر والمخاوف والكسور النفسية تصلحها علاقة حقيقية مع الله سبحانه.
لكن كيف يستبصر الإنسان بنفسه؟ بعد الاستعانة بالله عز وجل يستطيع الإنسان منح نفسه الوقت الكافي للتأمل بصدق فيما يشعر به من مشاعر وما يدور في عقله من أفكار ويتحاور مع نفسه، وقد كان هذا دأب الصالحين فيما عرف بالمشارطة والمراقبة والمحاسبة.
ليس على الإنسان أن يخضع لجلسة تحليل نفسي حتى يعرف الأبعاد الغائرة لما يعانيه، يكفيه أن يستبصر بما يعانيه ويدركه ثم يبدأ بتغيير أفكاره حوله، عليه أن يصنع تشابكات عصبية جديدة تحل محل القديمة، مشاعر تزحزح مشاعر، وبالطبع فالمسألة ليست سهلة، وإنما جهاد؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69).
المشاعر والأفكار القديمة لن نتخلص منها بسهولة، فهي أقرب ما تكون لمنظومة «الوسواس الخناس» سوف تهاجمنا في لحظات الضعف والغفلة محملة بالذكريات، مسلحة بالوقت الذي قضيناه في معايشتها والسلوكيات التي اعتدناها معها، لكن الحل يكمن في استدعاء حالة الوعي والانتباه؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).
3- علم وعمل:
يرتبط هذا المسار من مسارات النهضة بالمسار السابق «وعي الإنسان بذاته وإدراكه لقدراته ومعرفته بنقاط ضعفه وقوته»، ففي ضوء هذا الكشف يستطيع السير لتحقيق ذاته عن طريق تعزيز مهاراته، ويرتبط بذلك حسن إدارة الوقت ومهارات اتخاذ القرار والتدريب على الارتقاء بالتفكير واكتساب عادات جديدة نافعة والاستثمار في اللحظة الراهنة مع استشراف رؤية مستقبلية، باختصار هذا مسار السعي وراء العلم والتعلم والعمل للوصول لتحقيق أفضل صورة ممكنة للذات التي تستطيع العمل وإعمار الأرض وتستحق الاستخلاف.
4- مع العائلة:
إذا كانت العلاقة مع الله سبحانه وتعالى تشعر الإنسان بالرضا والسكينة والأمان ووعيه بذاته، في ضوء هذه الرؤية تمنحه السلام النفسي وتجعل منه فرداً عالي القيمة وسعيه وراء التعلم والعمل تحقق أفضل نسخة واقعية ممكنة منه، فإن هذا ينعكس بشكل مباشر على المسار الرابع «العلاقة مع العائلة»، فالإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الحياة منفرداً وحيداً، فهو بحاجة دائماً للأنس والسكن؛ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف: 189).
ومن ثم فالحاجة لوجود عائلة مسألة فطرية؛ (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل: 72).
العائلة أكبر شبكة داعمة للإنسان، وكل فرد عالي القيمة هو إضافة رائعة لعائلته، ولا يمكننا الحديث عن نهضة فردية في معزل عن العائلة، فأحد أهم معايير النجاح النهضوي أن يبذل الإنسان جهداً للاستثمار في عائلته وصناعة علاقات قوية ودافئة معها، بل يمتلك القدرة على الصمود النفسي في مواجهة الضغوط التي قد تمثلها العائلة مهما بلغت؛ (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15).
وعلى الرغم من حدة الضغوط التي تصل للتحريض على الكفر يبقى الإنسان المؤمن «عالي القيمة» لديه القدرة على الصمود والرفض، وفي الوقت ذاته يمتلك القدرة على إدارة علاقة فيها من الصحبة، ومن المعروف القدر الذي يحافظ على فطرية العلاقة، وربما يستطيع فتح ثغرة للوصول للقلوب المغلقة.
5- إصلاح المجتمع:
أما خامس المسارات في رحلة الإنسان للنهوض بذاته فهو الدائرة الواسعة التي يعيش فيها الإنسان أي المجتمع، فلا بد أن يكون للإنسان دور في صلاح مجتمعه، فالصلاح الذاتي وحده لا يكفي؛ (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
إنه التحدي الحقيقي أن يتحرك الإنسان الذي أصلح ذاته قدر ما يستطيع، وأصلح في عائلته قدر ما يطيق لإصلاح المجتمع الذي يعيش فيه، لا أعني أن الإنسان قد يصل للغاية في إصلاح نفسه أو عائلته كي يستطيع السعي وراء صلاح مجتمعه، فكثيراً ما تسير الأمور بطريقة متقاطعة، ولكن المؤكد أن هذا المسار همزة الوصل بين الصلاح الفردي وصلاح ونهضة الأمة.