تعد الخلافة الإسلامية من أهم الجوانب التي عُني بها الإسلام، لحماية دعوته ونشرها، وتبليغها إلى الناس كافة، وحماية المجتمع واستقرار أوضاعه، وهي السبيل الآمن إلى تطبيق شرائع الله وتنفيذ حدوده، ومن ثم تحقيق الهدف المنشود من رسالة الإسلام، وهو استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها والقيام بما أمر الله به فيها.
فالخلافة وسيلة فعَّالة إلى مقاصد معينة يستطيع الحُكْم تحقيقها؛ لما للحاكم من سلطان يستطيع به تنفيذ ما يعجز عنه آحاد المسلمين، فيختصر الطريق ويبلغ الأهداف ويحقق المقاصد، وهي بعض مقاصد الإسلام.
ولهذا، اتفق فقهاء الإسلام على وجوب الخلافة، وجعلوها من فروض الكفايات، كالجهاد في سبيل الله وطلب العلم، فإذا قام بتلك الواجبات من هو أهلها من الأمة الإسلامية؛ سقط فرضها عن بقية الناس.
وللخلافة الإسلامية مقاصد إجمالية، تتبعها أخرى تفصيلية، أما مقاصدها الإجمالية فتظهر في تعريف العلماء لها، حيث يرى الماوردي أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به(1).
فهذا التعريف يؤكِّد وظائف الخلافة، أي: مقاصد الحكم، ويُجْمِلُها في مقصدين كبيرين؛ الأول: حراسة الدين، والثاني: سياسة الدنيا به.
فلا بُدَّ من الكلام عن كل مقصد على حدة، وبيان ما يندرج تحته من مقاصد فرعية.
الأول: حراسة الدين:
والمقصود بالدين هنا هو الإسلام، وحراسته تعني حفظه وتنفيذه.
أما حفظ الإسلام فهو إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلَّغَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها صحابته الكرام ونقلوها إلى الناس من بعده، وعلى هذا لا يجوز أيَّ تبديلٍ أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني؛ لأنَّ التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع المذموم في دين الله، ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد؛ لأنَّ الفرد إن كان مسلمًا فليس من حقِّه أن يبدِّل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدًا أن يخرج على نظام دار الإسلام ويشوِّه حقائق الإسلام، وإلّا كان ناقضًا لعقد الذمة، ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ نتيجة فهمٍ سقيمٍ أو تضليلٍ خبيث، فيجب على ولي الأمر -الخليفة- أو نائبه أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان، حتى يظهر الحق وتقوم الحجة.
ومن لوازم حفظ الدين تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يتطاول الأعداء فينتهكون الحرمات ويسفكون الدماء.
والحقيقة أنَّ دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه؛ لأنَّ استيلاء العدو على دار الإسلام ضياع للإسلام وطمس لحقائقه، وفتنة عظيمة للمسلمين، وزعزعة لعقائدهم، بسبب حكم الأعداء له، وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد، والتلبيس والخداع والتضليل(2).
وأمَّا تنفيذ الدين -الإسلام- وهو المظهر الثاني لحراسته، فيتحقق في أمور، منها تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع الدولة، وفي علاقة الدولة مع غيرها من الدول، ومنها حمل الناس على الوقوف عند حدود الله والطاعة لأوامره، وترغيبهم في ذلك، ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية، ومنها إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع كما يقضي به الإسلام؛ إذ لا يمكن الادِّعاء بحفظ الدِّين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة، مع توفر القدرة على ذلك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد من مقاصد الحكم الإسلامي، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
الثاني: سياسة الدنيا بالدين:
وهو يعني إدارة شؤون الدولة والرعية على وجهٍ يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وهذا يتمُّ إذا كانت إدارة شؤون الحياة وفقًا لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقًا لقواعد الاجتهاد السليم، فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين، ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم الإسلامي ويلتزم بها الحاكم المسلم، التي أشار إليها الفقهاء ما يأتي:
أ- إقامة العدل بين الناس: لأنه هو الأساس الذي لا قيام لدولة بدونه، ولا بقاء لأمة بفقده، والعدل يتضمَّن إعطاء كل إنسان حقَّه وعدم ظلمه في شيء، فمن الظلم تكليفه بما لا يجب عليه شرعًا، أو أخذ ماله بغير وجه، أو منعه ما يستحق.
ب- إشاعة الأمن والاستقرار: حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأمولهم، وينتقلوا في دار الإسلام آمنين مطمئنين، إنَّ هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين في الأمن، المعتدين على الناس، بشرط أن يكون التطبيق عادلًا وعلى الجميع بلا محاباة ولا تردد، فإذا ما طبِّقت الأحكام الشرعية على المعتدين أمن الناس وخاف المجرم، وتحقق الاطمئنان.
جـ- تهيئة ما يحتاجه الناس من مختلف الصناعات والحرف والعلوم: فهذه من فروض الكفاية التي يجب وجودها في الأمة لسدِّ حاجاتها، وقد أشار الفقهاء إلى ذلك، فقد قال العلَّامة ابن عابدين في حاشيته «رد المحتار على الدر المختار»: ومن فروض الكفاية: الصنائع المحتاج إليها(3)، ومن الواضح أن الصنائع المحتاج إليها تختلف باختلاف العصور والأزمان، فما كان الناس يحتاجون في الأمس قد يحتاجون إلى غيره اليوم، فعلى الحكم الإسلامي ملاحظة ذلك وتهيئة وسائله، ويترتب على اعتبار تحصيل الصناعات والحِرَف المحتاج إليها من فروض الكفايات لحوق الإثم بالأمَّة وبالحكام إذا قصروا في تحصيلها، وثبوت حق الحكام في إجبار أصحاب الصناعات على القيام بها إذا امتنعوا عنها، وهذا ما صرَّح به الفقهاء، فقد قال الفقيه المشهور ابن قيم الجوزية في كتابه «الطريق الحكمية»: إن لوليِّ الأمر إجبار أصحاب الحِرَف والصناعات على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عنها، وكان في الناس حاجة إلى صناعاتهم(4).
د- استثمار خيرات البلاد: بما يحقق للرعية الرفاهية الاقتصادية والعيش الكريم، وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب، فقد قال الإمام أبو يوسف، في كتابه القيم «الخراج»، الذي وجه إلى الخليفة هارون الرشيد: إن على الخليفة أن يأمر بحفر الأنهار وإجراء الماء فيها، وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك، وهذا نص كلامه: «فإذا اجتمعوا -أي: أهل الخبرة- على أنَّ في ذلك -أي: في حفر الأنهار- صلاحًا وزيادة في الخراج، أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة من بيت المال، ولا تحمل النفقة على أهل البلد، وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم(5).
كما يمكن القياس على ذلك جميع الأعمال اللازمة لاستغلال ثروات البلاد وخيراتها على وجهٍ يعود بالنفع العميم على الجميع، فهذه يجب القيام بها، مثل: تنظيم الري في البلاد، وإقامة السدود، وتحسين الزراعة، واستخراج المعادن، وإقامة المصانع، وتعبيد الطرق التي تسهّل نقل المحاصيل، وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وعدها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال(6).
______________________
(1) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي، ص 5.
(2) أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، ص 230.
(3) ابن عابدين، ج3، ص32.
(4) الطرق الحكمية، لابن القيم، ص 222.
(5) الخراج، لأبي يوسف، ص 110.
(6) أصول الدعوة: د. عبد الكريم زيدان، ص 236.