أخرج الإمام ابن حبان في صحيحه، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قَالَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ»، وفيه دليل على أهمية خواتيم الأعمال وضرورة الحرص عليها، ولهذا أفرد الإمام البخاري في صحيحه باباً في كتاب الرقاق، وجعل عنوانه بَاب «الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَمَا يُخَافُ مِنْهَا».
ونحن في هذه الأيام نختم أيام شهر رمضان المبارك، بما فيها من العبادات والطاعات، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها في موازين الحسنات، وأن يدخلنا بها في أعلى الجنات، وقد أوصانا الشرع الحنيف بحسن ختام هذه الأيام المباركة، وذلك من خلال عدد من الوصايا، منها:
أولاً: عدم الانقطاع عن الأعمال الفاضلة في أواخر أيام رمضان:
فلا يتسرب الكسل أو الفتور إلى النفس، كما لا يهجم الانشغال بالعيد على قلب المسلم وعقله، فيترك صلاة القيام أو قراءة القرآن أو الإحسان إلى الناس في آخر يوم أو يومين من رمضان، فإن الثبات على العمل الصالح حتى النهاية من علامات القبول عند الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على العمل الصالح ولا يتركه، ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة قالت: «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا عمِل عمَلًا أثبَته»؛ ومعنى أثبته؛ أي: أتقَنَه وأَحْكمَ عَملَه فيه وداوَمَ عليه.
كما أن الملائكة تطوي صحائف أعمال العباد في هذا الشهر الكريم في أواخر أيامه حتى ترفعها إلى الله تعالى، فلا نحرم أنفسنا من الوجود في عداد المؤمنين المداومين على الطاعة حتى يقبلها الله تعالى.
ثانياً: العزم على مواصلة العمل الصالح بعد رمضان:
إن المداومة على العمل ولو كان قليلاً من أحب الأشياء إلى الله، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قَالَ: «أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ»، وفي صَحيحِ مُسلمٍ عن عَلقمةَ، قال: سألتُ أمُّ المؤمنين عائشةَ، قال: قلتُ: يا أُمَّ المؤمنين، كيف كان عمَلُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ هل كان يَخصُّ شيئًا مِن الأيَّامِ؟ قالتْ: «لا، كان عَمَلُه دِيمةً».
ومما يعين المسلم على مواصلة العمل الصالح بعد رمضان أن يعلم أن ذلك مبشِّر بقبول الأعمال التي قام بها في رمضان، فإن علامة قبول الطاعة فعل الطاعة بعدها، وفي هذا يقول عروة بن الزبير: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ أَخَوَاتٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ تَدُلُّ عَلَى أُخْتِهَا(1)، وقال ابن القيم: الحسنات والسيئات آخذ بَعْضهَا برقاب بعض يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا ويثمر بَعْضهَا بعض، وقَالَ بعض السّلف: إِن من ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَة بعْدهَا وَإِن من عِقَاب السَّيئَة السَّيئَة بعْدهَا(2).
وقال يحيى بن معاذ: من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود(3)، فعلى كل مسلم أن يعزم على العمل الصالح بعد رمضان.
ثالثاً: العفو عن الناس:
إننا نطلب العفو من الله تعالى، والله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92)، فمن أحب أن يعفو الله عنه؛ فلينفق من هذا العفو على الناس، قال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ (النساء: 149).
كما أن العفو عن الناس وإزالة ما بينهم من خصام وشحناء؛ شرطٌ لدخول الجنة، فالأعمال تعرض على الله تعالى، والله يغفر لعباده إلا المتشاحنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الإثْنَيْنِ، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا».
رابعاً: إخراج زكاة الفطر:
هي فريضة على الصغير والكبير والرجل والمرأة والحر والعبد، ممن يملك قوت يومه، وقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خواتيم شهر رمضان المبارك، فعن عبدالله بن عباس قال: «فرضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ زَكاةَ الفطرِ طُهرةً للصَّائمِ منَ اللَّغوِ والرَّفثِ وطعمةً للمساكينِ»(4).
خامساً: الاستغفار:
فهو توبة من المعصية، وجبر للخلل الواقع في الصيام والقيام، وقد أخرج البيهقي عن أبي هريرة أنه قال: «الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَجِيءَ غَدًا بِصَوْمِهِ مُرَقَّعًا فَلْيَفْعَلْ»(5)، وهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار، وصدقة الفطر فإن الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث(6).
سادساً: التكبير في ليلة العيد:
فقد شرّع الله تعالى التكبير في ليلة العيد والجهر به في المساجد تعظيماً لله وشكراً له على إتمام النعمة، حيثُ قال الله تعالى في آياته الكريمة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185)، وقد أكد الفقهاء أن الناس يكبرون حين تغيب الشمس ليلة الفطر، فرادى وجماعة، حتى يخرج الإمام لصلاة العيد، ثم يقطعون التكبير(7).
سابعاً: التهنئة بالعيد:
فيها إظهار للفرحة بالعيد، وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم فعلوا ذلك، فقد روى بن عدي من حديث واثلة أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فقال: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم تقبل الله منا ومنك، وعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، قال الحافظ: إسناده حسن(8).
ثامناً: الرجاء في قبول الأعمال والخوف من ردّها:
المسلم يدعو ربه في هذه الأيام المباركة أن يتقبل الله منه الصيام والقيام وصالح الأعمال، والمسلم عند فعل الطاعة يؤديها كما أمره الله بها، ثم هو لا يغتر بفعلها ويضمن قبولها، بل إنه يفعلها راغباً في قبولها وخائفاً من ردها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90)، وأخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة قالت: سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن هذِهِ الآيةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ (المؤمنون: 60) قالت عائشةُ: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ: «لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ ألا تُقبَلَ منهُم، ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ (المؤمنون: 61)».
وقال سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27)، وكان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري! من هذا المقبول منَّا فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المحروم جبر الله مصيبتك(9).
________________________
(1) المصنف، لابن أبي شيبة (36484).
(2) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (1/ 299)
(3) لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي، ص 385.
(4) أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827).
(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، (3/ 316)، برقم (3644).
(6) لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي، ص 66.
(7) انظر: الأم، للشافعي، (1/ 275)، والمجموع، للنووي، (5/ 30).
(8) فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، (2/ 446).
(9) لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي، ص 246.