الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
منزلة الابن عند أمه منزلة لا يتصورها إنسان، ولا يعبر عنها أفصح بيان، فهو منها اللسان والفم والجَنان والدم، هو الإحساس قبل الأنفاس، هو الألم والأمل، رآه الفؤاد بالشوق والهيام قبل أن تنظره العينان وتنعم بدفئه الأحضان، هو اليوم الحاضر بإشراقه، والمستقبل القادم بأفراحه وأتراحه، هو قرة العين ومنى النفس، ربته السيدة أسماء رضي الله عنها فصنعت منه أمة في صورة شخص على خلاف كثير من الأمهات اليوم تربي أشخاصاً فقط كالهلام لا قيمة ولا وزن! ربت إحداهن الشكل وتناست العقل، أغدقت عليه عظيم الإغداق ليملأ بمنظره الأحداق وغفلت عن الفضائل والأخلاق.
وهذا نداء وضعته السيدة أسماء رضي الله عنها في فم الزمان ليملأ الكون صداه في مصابها بولدها عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، الذي صبر أمام طغيان الحجاج بن يوسف الثقفي بعزة المؤمن ويقين الصابر المحتسب.
إذا كانت الأم هي وعاء الإنتاج ومصنع الأفراد فإنها المعوّل عليها في صنع الرجال
دخل ابن الزبير على أمه اليوم الذي قتل فيه، وقد رأى من الناس ما رأى من خذلانهم فقال: يا أمي، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟
فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، قد قُتل عليه أصحابك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنتُ على حق فلما وهن أصحابي ضعفتُ، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ والله لضربة بالسيف في عزٍّ أحب إليَّ من ضربة بالسوط في ذل.
فقال: إني أخاف أن يمثِّلوا بي، فقالت: يا بني، إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها، فدنا منها وقبَّل رأسها، وقال: هذا والله رأيي الذي قمت به داعياً إلى يومي هذا(1).
وضوح الهدف ونُبل الغاية
وأول أمر يسترعي انتباهك عند مطالعة هذا الموقف الرائع هو وضوح الهدف ونبل الغاية والمقصد، فإذا كانت الأم هي وعاء الإنتاج ومصنع الأفراد فإنها المعوّل عليها في صنع الأجيال والرجال، وكلما أدت دورها بإتقان صدرّت لأمتها نماذج إنسانية قرآنية عظيمة تستشرف الطريق السوي، وكلما تخلت عن مهمتها انهار البناء وسقط البنيان.
وهذا ما فطنت إليه السيدة أسماء رضي الله عنها، فهي تدرك أن الله عز وجل هو الغاية، والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وأن بذل المهج في سبيل الله أسمى الأماني، وأن كل شيء فداء هذا الدين القويم هباء، وبشعاع من سناها أنارت الطريق لأولادها وجعلتهم ثماراً ترجو من المولى جناها.
عن أبي نوفل ابن أبي عقرب، أن الحجاج لما قتل ابن الزبير وصلبه ثم أنزله عن جذعه وألقاه في قبور اليهود، أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فانطلق حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين، وأنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: «إن في ثقيف كذاباً ومبيراً»، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها(2).
دروس تربوية
وفي هذا الموقف عدة دروس دعوية وتربوية مهمة، منها:
1- عزة المرأة المسلمة وكرامتها وعفتها وعدم المهادنة عند الظالم وعدم الخوف إلا من الله عز وجل، وهذا دليل واضح على قوة العقيدة وصدق الرجاء.
2- الثبات على المبدأ والتضحية من أجل العقيدة بالطارف والتليد ومفارقة الوالد والوليد، وإن كان يحلو للبعض أن يجعل من التغني بالثبات كلاماً، فلقد جعلت منه السيدة أسماء رضي الله عنها بالفعال أقلاماً.
3- الصبر الذي بلغ قمة القمم ورأس العلم، وقل لي بربك: كيف يمكن لامرأة أن تأخذ ولدها بعد أن قُتل وصُلب ثم تحنطه وتكفنه وتصلي عليه، إلا إذا كان عندها إيمان وثيق وصبر جميل بموعود رب العالمين؟!
هناك فضليات محتسبات في فلسطين فقدن الولد والوالد والعائل على أيدي اليهود
عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على أسماء بعدما أصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صلب عبدالله، اللهم لا تمتني حتى أوتي به فأحنطه وأكفنه، فأتيت به بعد، فجعلت تحنطه بيدها وتكفنه بعدما ذهب بصرها وصلت عليه، وما أتت عليه جمعة إلا ماتت(3).
وما أروع هذا المثل الذي أصبح عنواناً بارزاً يدعو إلى الصبر والثبات والتضحية والفداء، وغدا واقعاً نحياه اليوم ونراه! فعلى الدرب فضليات محتسبات في أرض الله الواسعة في فلسطين وغزة الأبية وغيرها من البلدان الإسلامية فقدن الولد والوالد والعائل على أيدي اليهود المغتصبين ممن لا يعرفون رباً ولا يرحمون صغيراً ولا شيخاً ولا امرأة، هؤلاء الفضليات صبرن وصابرن واحتسبن الأجر عند قيوم السماوات والأرض، وأين منهن كثيرات من النساء يقمن المأتم والعويل ويلطمن الوجه بالويل والثبور ويعفرن وجوههن بالتراب وقد مات لهن عزيز على فراشه وبين عشيرته؟! ألا ما أبعد الشقة بينهما!
4- الشجاعة وكلمة الحق عند سلطان جائر، وهذه من أفضل مراتب الجهاد وأعلاه، وهي تشتكي اليتم في دنيا الناس، فأربابها نفر قليل، أما الجبناء فكثير ما هم!
وانظر إلى قوتها وشجاعتها في الصدع بالحق ومواجهة الحجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا مبالاة ولا خوف من سيف انتقامه، وبطش سلطانه، بقولها له: «وأما المبير فلا أخالك إلا إياه»، وهذه بلا ريب أشهى ثمرات اليقين والرضا بما يصنعه رب العالمين.
_________________________
(1) جمهرة خطب العرب في عصور العربية الظاهرة (2/ 178).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 432)، والحديث رواه مسلم (2545).
(3) المرجع السابق (4/ 433).