التطبيع زمن الإفساد الأول
حين تجلى الإفساد الأول زمن النبوة ظهر معه مشروع عباد الله مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الوعد الأول لإزالة هذا الإفساد الذي ذكر في سورة «الإسراء» وكُشِف عن ظهوره في مرحلتين؛ (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً {4} فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) (الإسراء)، وتجلى هذا الإفساد الأول في علو بني قريظة وبني قينقاع، وغدر اليهود، ومحاولتهم جمع الشلة الاستبدادية العربية لاجتثاث مشروع الصحابة والنبوة.
هي واحدة من أخطر المحن التي مرّت على الأمة، وتجمع المصادر على أن يهود المدينة المنورة سارعوا إلى نقض العهود وتدبير المؤامرات والمكائد؛ مما دفع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ قرار الإجلاء من الديار في حق من أمعنوا في التشويش على دعوته وتأليب الناس عليه، بل محاولة قتله، كما كانت الحال مع بني النضير.
أما حكم المواجهة لتطهير الأرض منهم فلم يصدر إلا عندما وجد المسلمون أنفسهم أمام خيانة عظمى من جانب بني قريظة، حين تحالف يهود بني قريظة مع الأحزاب يوم غزوة «الخندق»، فكانت محاولة لإحداث انكسار تاريخي في الأمة ونقضاً للمواثيق استحقت الاستئصال.
هنا نرصد جلياً أن مرحلة الاستئصال النبوي لهذه الجرثومة لم يتحقق إلا في مرحلة العلو، وبعد تحول هؤلاء الفاسدين إلى قوة فكرية وعسكرية تخطط ما يسمى اليوم «التطبيع»؛ بمعنى عملية تنسيق وتكالب جماعي تعزيزي لتصفية مشروع الأمة من خلال تكتلات وأحزاب وعصابات، ولم يفكر المطبعون اليهود التنسيق مع الأحزاب إلا بعد رصدهم وجود طوفان دعوي وسياسي مع مشروع القرآن يتحول ارتقاء إلى مشروع في دولة، وهو مهدد كبير لا لقريش فحسب، بل للأمم الأولى الفاسدة ولمشروع اليهود منذ نشأته قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها.
التطبيع زمن «الطوفان»
من «التطبيع» زمن العدنان إلى تطبيع زمن «الطوفان»، هنا يتجلى الشبه في الأحداث والتخطيط والمناجزة والتدافع.
نشهد اليوم تحولاً في المنطقة بسبب ظهور ما يسمى «طوفان الأقصى» ومعركة 7 أكتوبر، هو فعل أحدث كَسْراً في الخنجر الصهيوني الذي زرع مع بلفور في عام 1917 بوعد، ولأن الكَسْر ليس شبيهاً بانتصار عربي في عام 1973م أو معركة «الفرقان»، أو «سيف القدس»، أو «سجيل»، فإن الغرب لأول مرة سيتدخل في 7 أكتوبر دعماً للكيان الصهيوني عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر لإنقاذ خنجره الصهيوني المزروع، وفي نفس الوقت سنشهد تحركات أمريكية في المنطقة لجمع الشلة الاستبدادية العربية من جديد (بعد فشل «صفقة القرن») من أجل تطبيع وتنسيق عربي أمريكي، لعله ينقذ مشروع الكيان وهو مشروع الغرب الاستكباري والاستبداد العربي.
زيارات أمريكية
الهدف الأول: هنا رصدنا أكثر من زيارة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للمنطقة بعد «طوفان الأقصى»، وهي زيارات ليست عبثية، بل تأتي كضرورة ملحة ومصيرية لإنقاذ المشروع الصهيوني في المنطقة، علماً أن المطبع العربي له علم بـ«حماس» وله خونة وسبل للخيانة والتغلغل الأمني والاختراق الاستخباراتي، خصوصاً بعد نفاد سبل الخطط الإبادية «الإسرائيلية» والأمريكية لتصفية المقاومة.
قد لا نرصد مؤخراً مدى كثافة الزيارات السرية واللقاءات العربية والأمريكية رفقة «الموساد» الصهيوني في الغرف المغلقة، لتحقيق تطبيع جماعي لإيجاد خطة إنهاء «حماس» والمقاومة في المنطقة، لكن هذا التطبيع السري حاضر بقوة أكثر من فترات («صفقة القرن» مع ترامب، وكوشنير، وبايدن)، بل قوة الحدث وغضب الشعوب يحجب الأنظمة العربية المطبعة عن الإعلان عن الاتفاقات المطبعة العسكرية والسياسية والأمنية والاستخباراتية لتعزيز قدرة الكيان الصهيوني في معركته مع «طوفان الأقصى».
التطبيع والتنسيق حاضر بقوة بعد فشل إستراتيجي وتكتيكي أمريكي وغربي وأوروبي لتصفية المقاومة، وبقيت نافذة وشرفة التطبيع مع العرب كمخرج ثان لعل بني الجلدة العربية الفقيهة نسبياً بـ«حماس»، تجد اختراقاً في غزة وتنجحه بطريق آخر.
هما واجهتان في التطبيع العالمي؛ واجهة التطبيع «الإسرائيلي» مع المستوى الأمريكي والأوروبي عسكرياً واستخباراتياً وفشلوا، وواجهة التطبيع الأمريكي «الإسرائيلي» العربي لإنقاذ الجيش «الإسرائيلي» ومشروع نتنياهو.
الهدف الثاني من زيارات بلينكن زيارات كذلك ترميمية للتطبيع الذي بدأ يضعف اهتراء، ويتراجع خوفاً وفضحاً بعد سقوط دعايات الكيان الصهيوني عن التعايش والسلام، وأنه أقوى دولة في المنطقة، فلعل أمريكا تعزز العلاقات بين القوى العربية (أي الأنظمة العربية) والكيان الصهيوني من جديد، رغم إسقاط المقاومة هيبة الجيش «الإسرائيلي»، وجيش الأسطورة الذي وعد بحماية الدول العربية المطبعة وحكامها.
لذلك كان بلينكن يرغب في تقديم نتائج تحركاته التطبيعية الجديدة (زمن اهتراء الدعاية الصهيونية في «طوفان الأقصى») كهدية لنتنياهو والمتطرف الصهيوني لدغدغتهم لقبول الصفقة وإنهاء الحرب وإيقافها، مقابل العودة من جديد للتطبيع بعد إقناع بعض الأنظمة بالعودة إليه وتزيين صورة «إسرائيل» في المنطقة، بل على أمل تحقيق خطة عسكرية واستخباراتية عربية «إسرائيلية» أمريكية في هذه المرحلة لاختراق غزة والالتفات على مقومات «حماس»، والسعي لاحتضان العشائر اختراقاً، إلى الالتفات على الحاضنة الغزية وتوزيع المساعدات.
كله تطبيع وهدية أمريكية لنتنياهو حتى يرصد ضوءاً يخفف من هيجانه ليقبل الصفقة ويوقف النار.
الهدف الثالث من الزيارات الأمريكية إعادة ترميم الهدف الذي جاء به مشروع بايدن في المنطقة، وهو هدف «ملء الفراغ الأمريكي»، حسب ما صرح به في أول زيارة للمنطقة، من خلال تنزيل إستراتيجية إدماج الكيان الصهيوني في المنطقة؛ أي تكالب وتطبيع كامل بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية بشكل تنسيقي في مجالات الأمن والاستخبارات والعسكر وكل المجالات لحماية مصالح كل منهما عند الضرورة خصوصاً كله من أجل إنقاذ الجيش «الإسرائيلي» من وحل «طوفان الأقصى».
ماذا يخشون من «طوفان الأقصى»؟
في المرحلة الأولى من الوعد زمن الإفساد عهد النبوة لم يصل التطبيع مداه وعلوه مع اليهود والأحزاب العربية سوى بعد رصد علماء اليهود وخبراء تاريخهم أن مشروع النبوة يشهد منعطفاً في التغيير نحو ارتقاء في الدولة والدعوة إلى العالمية وتجاوز كل الأمم المفسدة.
نفس الرصد في «طوفان الأقصى» شهده أرباب «الجيتو» وكبار الحاخامات الصهاينة والمؤرخين الصهاينة والغربيين زمن الإفساد الثاني، حين رصدوا أن 7 أكتوبر شبيهة بضربة لمشروع بني قريظة والأحزاب وتطبيعهم وصفقتهم، وحين رصدوا أن «طوفان الأقصى» قد يعد تحولاً مؤثراً في مستقبل هذه الأمة، بل وتحولها مستقبلاً إلى شعوب متحررة، فدول قوية في دولة موحدة واتحاد جامع، بطبيعة الحال، بعد استئصال الكيان الصهيوني وسقوطه، مثلما تم استئصال جرثومة بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وبقايا الإفساد فكُسِرَ الجدار لما كسرت النبوة الصخرة، وتحركت الدعوة إلى العالمية لذلك كان التطبيع والتكالب الأمريكي والعربي في «طوفان الأقصى» أشد خشية من تحول مستقبلي للمنطقة، يُمَكِّنُ الأمة من التحرر فدول قوية فدعوة ودولة تصل للعالمية.
________________________
باحث وكاتب في الشأن الفلسطيني.