أحمد مختار
أنا عبد المأمور كما يقولون!..
صحيح أنني برتبة لواء، ومدير أمن القليوبية على سنّ ورمح، وتحت قيادتي مئات الضباط والجنود وأمناء الشرطة والخفراء، وموظفو الأحوال المدنية والجوازات والمرور.. ولكني لا أملك من أمري شيئا فيما يتعلق بالأمور السياسية أو التي تعدّ كذلك، أستطيع أن أتعامل مع اللصوص وتجار المخدرات والمجرمين والبلطجية وأشباههم، وأطبق عليهم القانون، وأتغاضى أحيانًا عن بعض الأمور التي تتعلق بالسجناء والمتهمين، أما موضوع السياسة فمسألة صعبة لا تجدي فيها المرونة أو التساهل.. وهناك جهاز خاص في المديرية للتعامل مع هذه الأمور يتلقى أوامره مباشرة من القاهرة، وأتلقى مثلها في الوقت نفسه، وعلينا تنفيذها مباشرة..
حرصت طول حياتي الوظيفية على السمع والطاعة. أنفذ الأوامر الخاصة بالسياسيين ولو كانت ضد أقرب الأقارب، ملفي نظيف، لم أمارس التعذيب، ولم أنتهك حقوق متهم أو سجين. طبيعتي مع أني عسكري خشن، تنفر من العنف ولا تحبه، ولا أرضى بضرب المجرمين واللصوص والبلطجية. أترك القانون يأخذ مجراه، ويكفي أن السجن يحد من حرية المجرم ويمنعه من الحياة الطبيعية وارتكاب جرائم أخرى، كنت أتغاضى عن دخول الطعام وأشياء أخرى من خارج السجن لبعض المحبوسين الجنائيين.
عندما كنت مأمورًا في أحد مراكز الصعيد البعيد، سألني ضابط المباحث، ذات مساء وهو مندهش:
– المجرمون لا يصلح معهم غير الشدة. لماذا تعطف عليهم؟
قلت له بهدوء:
– هؤلاء بشر مثلنا. ونحن لم نولد مجرمين. هناك أسباب نراها أو لا نعرفها تدفع إلى الجريمة، وعلى المجتمع أن يعالج هذه الأسباب، ويمكن للضباط أن يكسبوا ثقة المجرمين بالعطف، ويحولوهم إلى بشر أسوياء!
بدا كلامي غير مقنع له، فقال:
– المجرم مجرم، لا يتغير، والشدة هي الوسيلة لإخضاعه.
لم أشأ أن أجادله في الموضوع، واكتفيت بقولي:
– علينا أن نطبق القانون دون أن نضيف إليه قسوتنا.
أعرض عن قولي، ومضى ليواصل عمله بطريقته التي أحرص على لجمها إذا تجاوزت الحدود القانونية.
كان أبي يرحمه الله يوصيني منذ طفولتي، ويقول لي:
“لا تظلم. الظلم حرام. الله عادل، ولذا لا يترك ظالما يمضي في ظلمه إلى مالا نهاية، إنما يمهله ليوم الحساب. وقد يأتي حسابه في الدنيا والآخرة، فيدفع ثمن ظلمه وطغيانه. إياك والظلم يا بني.. فإنه عدوّ الحياة!”.
خبرت في حياتي العملية الممتدة منذ العهد الملكي حالات ظلم كثيرة، انتهى فيها الظالمون نهايات فاجعة. كانوا يتفاخرون بقوتهم وسطوتهم، وحجتهم في ممارسة الظلم أنهم يتقربون إلى رؤسائهم وقادتهم ويصلحون المجتمع. لقد ذهبوا وذهب من يدينون لهم بالولاء والطاعة، ولم يصلحوا المجتمع. للأسف وصموني بالخوف والجبن. لم يواجهوني باتهامهم ولكنهم كانوا يتهامسون به، ولكني كنت أعلم ما يقولون بطريقة ما. فعلا، هم صادقون في اتهامي، لأني أخاف ربي، وأجبن عن ارتكاب المظالم.
لم أكن أتوقع كارثة مثل كارثة سعد حلاوة. في البداية لم أصدق ما قاله مأمور مركز طوخ. شخص في الثلاثين أو نحوها يحتجز بعض الموظفين قي مجلس القرية، ويطلب إلغاء اعتماد السفير اليهودي.. ما هذا الجنون؟ أي ريح ألقت به إلى هذا المكان وفي هذا الوقت الحرج؟ لا أدري كيف تسللت إلى رأسي أغنية قديمة لسيد درويش، كتبها له بديع خيري، وهي تذكرني بعهد بعيد كنا نقاوم فيه الاستعمار الإنجليزي عام 1919قبل أن نعيش الاستعمار اليهودي:
أهو ده اللي صار
وآدي اللي كان.. ملكش حق ملكش حق تلوم عليا
تلوم عليا إزاي يا سيدنا وخير بلادنا مهوش في إيدنا
قوللي عن أشياء تفيدنا وبعدها بقى لوم عليا
وبدال ما يشمت فينا حاسد إيدك في إيدي وقوم نجاهد
واحنا نبقى الكل واحد والأيادي تصير قويه
يا مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب دولا أنصار القضيه
سعد حلاوة مشكلة لا أستطيع حلها وحدي. قيل لي إنك يمكن أن تتدخل وتنهي الأمر وتقنع الولد أن يفك أسر الرهائن، نظير البقاء على حياته، ولكن أمرا مثل ذلك يتعلق بالرئاسة والسياسة لا أستطيع أن أتحمل مسئوليته وحدي، فأنا رب أسرة وعلي التزامات، ولست بطلا لأضحي بها في زمن يبحث فيه كل فرد عن مصلحته، حتى انقلب ميزان المجتمع، فارتفع من يستحق النزول، وانخفض من يجدر أن يعلو.. ألسنا في عصر الانفتاح الأهوج؟
كنت أريد في أعماقي أن ينتهي الأمر سريعا، بأي ثمن إلا الدم، ويتحرر الرهائن ويعيش الولد سعد بأقل الخسائر، ولكن ماذا كنت أفعل في هذه المحنة؟
أخطرت الوزير، والوزير من فوره أبلغ الرئيس، والأخير طلب إنهاء الأمر حتى لا يتم إحراجه عالميا، فقاد الوزير بنفسه فريق التصفية!
***
اتهمني بعضهم أنني كنت من وراء الوحشية التي قتلوا بها سعد إدريس حلاوة. علم الله أنني لا يد لي في الأمر، لقد كان وزير الداخلية هو الذي يقود العملية التي سماها إنقاذ الرهائن كما يزعم، جاء ومعه عناصر الصاعقة والاقتحام والقناصة الذين يملكون القدرة على إصابة الهدف بدقة بالغة، الوزير يؤمن بالقوة الباطشة، لا مكان عنده للرحمة. يحب ألا يضيع وقته في التفكير والتفاوض والبحث عن حلول سلمية بين الحكومة والمواطنين، مع أن الرئيس قال: إنه يسعى إلى الحل السلمي مع العدو!
الحلول السلمية مع الشعب لدى وزيرنا لا محل لها، فالشعب أرخص من التراب، ولا قيمة له، ومن أجل ذلك أنشأ جيشا للداخلية يوازي جيش القوات المسلحة سماه “الأمن المركزي”، وأسرّ لي بعض القيادات أن الوزير كان نشيطا جدا في تنفيذ خطة “تجفيف المنابع” التي تسعى للقضاء على الحركة الإسلامية، وشارك في وضعها بعد كامب ديفيد الأمريكان واليهود، وعرفت باسم “خطة الدكتور ميتشل”. وعمّم الخطة على بقية اللواءات وكبار الوزارة، حتى خلفه وزير آخر اشتهر بمقولة: اقتلوا كل ذي لحية ولوكان خُنْفسا!
فسّر بعض الضباط الكبار بخبث رغبة الوزير الوحشية في القضاء على كل صوت معارض بظروف نشأته الاجتماعية، كان ابنا لأب يمارس مهنة متواضعة ولكنها ضرورية، والتحق بكلية الشرطة بعد صعوبات، فانتقل بعد تخرجه إلى طبقة أخرى، ولكن إحساسه بالدونية الطبقية ظل ملازما له، وتضخم هذا الإحساس حين تزوج من مطربة أفراح فقيرة تحولت إلى مطربة إذاعة وتلفزيون تغني للزعيم الملهم والرئيس المؤمن، ويقهقه الخبثاء أصحاب هذا التحليل وهم يضيفون أن قوته خارج البيت كانت تعويضا عن ضعفه في داخله!
لم تكن لي يد في عملية قتل سعد حلاوة. همست في أذن الوزير أن يصبر في عملية التفاوض حتى لا يقال إن السلطة تقتل شعبها، ويقارنون ذلك باهتمام العدو بواحد من أفراده لدرجة شن الحرب من أجل وجوده، وإنقاذ حياته، ردّ علي بغير مبالاة: “إنه مجرد ولد لا يساوي تعريفة!”.
لم يكن يخطر على بال الوزير أن يأتي رد الفعل الشعبي من فلاح في قرية متواضعة، كان يتوقع أن يأتي رد الفعل من أحزاب أو سياسيين معروفين، أما أن يأتي من هذا الولد الفلاح النكرة فهو ما أزعجه وأزعج الرئيس!
فهمت منه وهو يتكلم بغطرسة واستعلاء أن عملية هذا الولد في هذه القرية المجهولة، قد غطت على الخبر المهم الخاص بتقديم أوراق اعتماد السفير الصهيوني في مصر، وأن وسائل الإعلام العالمية أخذت تتوجه إلى القرية لنقل الحدث وتوزيع الخبر إلى العالم عبر وكالات الأنباء، وأن الرئيس شعر بالحرج أمام تل أبيب والولايات المتحدة فأصدر أوامره بإنهاء العملية قبل أن تتوسع أجهزة الإعلام في متابعتها وتغطي تفاصيلها وتحوّل سعد حلاوة إلى بطل، وربما تجذب قصته آخرين فيكرّرونها في قرى أخرى ومواقع مختلفة، وتسود الفوضى في البلاد.
بدا واضحا أن هناك أمرا مؤكدا من أعلى بتصفية الولد، وأن التفاوض مجرد ذريعة ليبدو النظام في أعين العالم متحضرا ويتحرك في إطار القانون، وتأكد ذلك حين غافل الولدَ قناصٌ بعد أن هدّه التعب وأرهقه الظلام وأثار الحصار توتره، فاخترقت الرصاصة إحدى عينيه، وجعلته يترنح مثل الدجاجة المذبوحة، ثم أجهز عليه القناص بدفعة أخرى من الرصاص استقر معظمها في رأسه، وهجم عليه أحد ضباط الصاعقة مستترا بأحد الرهائن فهشم جمجمته بكعب الرشاش بعد أن أشبعه ركلا وضربا بسن الحذاء حتى صار جثة هامدة!
في الصباح نشرت صحف الحكومة في زاوية ضيقة على صفحات الحوادث،
“مختل عقليًا يحتجز رهائن في إحدى قرى القليوبية!”. يعني “مجنون”!
إنه من أعقل الناس!
ولم يشيروا إلى تفاصيل الموضوع الحقيقية، بينما كانت صورة السفير الصهيوني تتصدر الصفحات الأولى، وهو يقدم أوراق اعتماده للرئيس، واحتلت الصورة مساحة عريضة، وكأنه يخاطب شباب مصر وأهلها، ويقول لهم:
اذهبوا إلى الجحيم!
***
من ناحية إنسانية تأثرت مشاعري بمقتل سعد إدريس حلاوة فقد تصورت أحد أبنائي مكانه، وأثّر في نفسي أكثر بكاء أمه وهي تناشده أن يسلم نفسه، فيرد عليها برغبته في الشهادة، مثل الآلاف الذين استشهدوا، ولكنني لم أستطع البوح بمشاعري، فأنا رجل شرطة يجب أن يتحكم في نفسه، ومهمته ضبط النظام، ولو بطريقة خاطئة، ورثنا هذا التقليد منذ عهد محمد علي. لا أستطيع تكسير الأوامر بلغة العساكر، ولكن الذي أحزنني أكثر، ما ورد في تقرير الطب الشرعي الذي جاء مطابقا لما حدث وشاهدته بنفسي..
فقد وصف الجثة في المشرحة وصفا مؤلما: ” جثة لشاب في الخامسة والثلاثين من عمره ، يرقد على منضدة بمشرحة المستشفى على ظهره ..
” إصابة في عينه اليسرى بالكامل، وتهشم برأسه من الخلف، والجرح نافذ الى الجمجمة مع خروج قطعة من المخ والإصابة طولها حوالي 7 سم ، وعرضها 5 سم تقريبا ومستديرة– أي بحجم كعب الرشاش، وحلقه منتفخ، تبين أن به أشياء متجمدة تشبه الطلقات النارية وفمه مفتوح ” .
استوقفني أمر عجب، وهو أن الوزير عندما حضر إلينا في أجهور ليشرف على إنهاء العملية وتصفية سعد، وكنا قد سبقناه إلى هناك لمحاولة إقناع سعد بترك الرهائن، فقد أمر عند نزوله من السيارة بضبط وإحضار المواطن سليمان عبد العزيز عبدالمؤمن سليمان، سائق “الموتوسيكل” الذي نقل الولد وحقيبته إلى مجلس القرية.
كما أمر بضبط وإحضار الحاج نصيف أبو خاطر سكرتير الوحدة المحلية، الذي هرب من الوحدة، والرجلان لا علاقة لهما في تصوري بما حدث، ولعلهما لا يعرفان نية سعد الذي قيل إنه كان كتوما، ولا يبوح لأحد بما يعتزم عمله إلا نادرا، لأنه يرى كما دلت التقارير التي جمعت حول نشاطه أن ما يخصه يبقى في دائرته لا يخرج عنها، فكيف بالتخطيط لمثل هذه العملية التي تقود إلى التهلكة؟ اهتم الوزير بشخصين هامشيين، وترك الموضوع الأهم وهو الرهائن. سائق الموتوسيكل مجرد ناقل له أو لغيره من الناس، والحاج نصيف سمع صوت الرصاص فهرب بجلده لينجو. النظام الشرطي يفترض أن ما يتعلق بأي حادثة ولو كان أمرا بسيطا قد يقود إلى معلومات مهمة، وقد يكون السائق والسكرتير من تنظيم سري شكله سعد قبل عمليته.. من يدري؟ على كل حال فإني أعجب لأن الوزير تعامل مع الهوامش قبل الرهائن.
***
مع أن الرئيس كان يريد إنهاء العملية سريعا، إلا إنها حظيت باهتمام بالغ على مستوى العالم العربي الذي كان في خصومة مع الحكومة المصرية ومقاطعة لها، وانتهزت أطراف مختلفة من الحدث نقطة ارتكاز لتوجيه السهام إلى المصريين وخاصة الرئيس الذي كان مستهدفا من بعضهم لأسباب شخصية وحزبية. كان الرئيس قد تصادم مع التنظيم الطليعي أو حزب عبد الناصر السري، فيما سماه ثورة التصحيح 15 مايو 1971، وقدم بعض أعضائه للمحاكمة، وفقد كثير منهم امتيازاته التي كان يتمتع بها من قبل، لقد أفرج عنهم السادات لاحقا، وأعادهم إلى أعمالهم، لم يغفروا له إقصاءهم المؤقت، فراحوا يستغلون كل حادثة للتشهير به وبزوجته، سواء من كانوا في الخارج أو الداخل، وكانت عملية سعد فرصة ذهبية وخاصة من يعملون في الصحافة، ليخوّنوا السادات، ويتجاهلوا من مكّن الأعداء من احتلال أرضنا وإغلاق ممرّاتنا المائية!
قرأت كلاما كثيرا في الصحف المعارضة عن انتماء سعد لعبد الناصر، وناصريته لأنه كان يذيع خطب عبد الناصر ومطربه المفضل عبد الحليم حافظ في أثناء عملية الاحتجاز. لكن الفتي لم يكن ناصريا في يوم من الأيام، بل كان يمقت الديكتاتورية والبطش. أظن أن الناصريين اخترعوا حكايات كثيرة حول ناصريته المزعومة. ومنها أن الوزير قال للرئيس:
“لقد كلمني حالا مدير الأمن- الذي هو أنا- وقال: إن الولد محتجز الرهائن يذيع خطب عبدالناصر يا ريس، فرد الرئيس: من عبدالناصر؟ ماذا تنتظر يا حضرة الوزير؟ ألم يقل إنه سيقتل نفسه؟ إذا ابعثه إلى عبد الناصر الذي يحبه”.
أظن أن الحكاية غير صحيحة، لأن أمر التصفية بسيط للغاية، ولا يحتاج إلى إرساله إلى عبد الناصر..
إن قراءات سعد الكثيرة جعلته يرفض الاستبداد والقمع. أجل! كان من أسرة العمدة، ولكنه كان إنسانا مرهفا يكره الظلم، ويوم هزمت مصر شعر بالقهر، وتشير التقارير إلى فرحته العارمة يوم عبور قواتنا المسلحة قناة السويس، ورؤية الأسرى اليهود على شاشة التلفزيون.
لقد امتد بي العمر لأطالع ما قالته ابنة عمه هالة حفناوي حلاوة للصحف بعد سنوات من استشهاده وهو صحيح: إن ابن عمها، يستكمل في الحقيقة دور الجد الأكبر “إبراهيم حلاوة” عمدة أجهور الكبرى، الذي قال عنه عبد الرحمن الرافعي في كتابه “الثورة العرابية”: إنه كان أحد عُمَد القُطر المصري الذين ساندوا الثورة العرابية، ووقفوا إلى جانب جيش عرابي بالخبز والتمر والمال لشراء الأسلحة، ووقّعوا على عريضة مطولة تأييدًا لأحمد عرابي ثم رفعوها إلى الخديو توفيق.
وأضافت السيدة هالة حلاوة، أن ابن عمها سعد كان يؤدي الفرائض بانتظام، ولا ينتمي لأي تنظيم سياسي باستثناء التنظيم الذي يسميه بعضهم “تنظيم الشعب” ويقصد به المواطن العادي الغيور على مصلحة مصر وكرامتها، كان سعد مثقفًا ودائم القراءة، وكان على اطلاع واسع، كوّن له وجهة نظر فى الحياة، وكان يشرف على أراضي والده التي ورثها هو وأخوته وهي من أجود الأراضي الزراعية، وكان يتصف بالجود والكرم والشهامة، وذلك بشهادة كل أقاربه وأصدقائه، وكان يقوم بتوزيع الثمار من التمر والجوافة والحبوب والأموال على جميع الأهل والأقارب والمحتاجين، ويفعل ذلك دون أن يراه أحد، وكان يشرف على تحسين حال المسجد الذى يداوم على الصلاة فيه، ويقوم بترقيم مكان تلاوة القرآن الكريم بوضع زهرة من الزهور التي تشتهر بها القرية على الصفحة التي توقف عندها فى القراءة، وكان حريصًا على صلة الرحم ومحبة الأطفال وبشوش الوجه، والأهم أنه كان صاحب وجهة نظر في الحياة، وكان يستطيع على يسر حاله أن يعيش منصرفا عن أحوال بلده، ولأنه صاحب وجهة نظر أقدم على ما فعله وهو يعلم تمامًا أن الثمن قد يكون حياته كلها، وهو ما حدث بالفعل.
من أغرب ما طالعته بعد الحادث، ما نشرته الصحف عن شهادات بعض الذين عاشوا لحظات الاحتجاز، في داخل الوحدة المحلية أو خارجها، وكان من بين ما نشروه شهادتي. لقد أوحت شهادتي في أسلوبها المنشور أنني رجل بلا قلب، ومجرد من الإحساس، بينما لم أقل غير الحقيقة، ولم أقرر إلا ما هو واقع..
لقد قالوا إنني أكدت أن كل همّي في تلك العملية أن تنتهي بأية وسيلة، ووصفت الرأي العام في مصر بأنه “رأي عام في حاله، وناس تفكر في أكل عيشها، والسياسة عندها أصبحت مجرد كلام يدخل من هذه الأذن، ويخرج من الأذن الأخرى !”.
وهذا صحيح، لقد أُبعد الناس عن المشاركة في شئون البلد، فراحوا يبحثون عن لقمة العيش، وقد هدّهم الفقر، حيث لا مكان إلا للصوص المحترفين الذين يسرقون بالقانون، ولا يستطيع القانون أن يلاحقهم، والسماسرة، وتجار الخردة والاستيراد والتصدير. استوردوا اللحوم الفاسدة، وطعام الكلاب والقطط وباعوها للفقراء والجوعى، وكم من قضايا عرضت على المحاكم، ولكن المتهمين لم يتأثروا، زد على ذلك لصوص القروض الذين اقترضوا من البنوك الوطنية، وحملوا ما أخذوه وهربوا إلى الخارج. شعبنا مسكين، ظالم ومظلوم. ظالم لأنه يسكت على الظلم، ومظلوم لأنه تعرض لقهر طويل. أنا ضابط مشغول بالضبط والربط، وأزعم أني مثقف إلى حد ما، وقارئ إلى حد ما، صدقوني! قد أكون استثناء ومثلي قليل، ثم إنني أعلم أن عامة الناس لا تفكر فيما يجري تفكيرا عميقا، ومعرفة الأوضاع الصحيحة والخاطئة في المجتمع، إنهم ينصتون لأبواق الدعاية وما تقوله الإذاعة، ويشاهدون ما يبثه التلفزيون، ويصدقونه، ويهتفون ويصفقون لمن يخاطبهم، ولو كان يضحك عليهم بكلام إنشائي، ووقائع وهمية، وإنجازات غير حقيقية..
قرأت في زمن بعيد حوارا في مسرحية “مصرع كليوباترا” لأمير الشعراء أحمد شوقي، يدور بين شابين مصريين. الأول اسمه “حابي” والآخر اسمه “ديون” عقب أن تناهى إلى مسمعيهما صوت الجماهير تهتف لكليوباترا وانتصار أسطولها المزعوم على أسطول الإمبراطور الروماني أوكتافيوس، وهو انتصار وهمي صنعته جوقة كليوباترا وبطانتها على عكس الحقيقة التي تقول إنها تلقت هزيمة مخزية دفعت بها إلى الانتحار. يقول حابي لصاحبه ديون:
انظر الشعب ديون كيف يوحون إليه؟
ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه
أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء عقله في أذنيه
فيرد عليه حابي:
سمعتُ كما سمعتَ وراعني أن الرَّميَّة تحتفي بالرامي
هتفوا بمن شرب الطِّلا في تاجهم وأصار عرشَهُمُ فراشَ غرام
ومشى على تاريخهم مستهزئًا ولو استطاع مشى على الأهرام
ويمضي الحوار يفند غفلة الجماهير، وتصديقها لما يقوله الحكام، ولو لم يكن له ظل من الصدق، لقد شدّني الحوار، وذكرني بوقائع كثيرة مماثلة كدت أصدقها لولا أنني أعرف الأخبار من مصادرها، وأعرف الحقيقة، وللأسف فإن التاريخ يكرر نفسه بالنسبة لشعبنا المسكين!
سمعت المحاضر في محاضرة تدريبية يتكلم عن ضرورة ترقية الشعب خلقيا وإنسانيا، ليسهم في بناء المجتمع، ويذكر مقولة لابن خلدون “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة.” ويبدو أن الإنسان في بلاد العرب عامة مهمش، مع أن المجتمع يحمل بين جنبيه مئات الألوف من الخبراء والعلماء والمثقفين! ماذا جرى لك يا مصر؟
***
دخلت عليّ زوجتي بعد فترة من قتل سعد حلاوة، وقدمت إليّ صحيفة يومية، وقالت:
– اقرأ.
قلت:
– ماذا أقرأ؟
أشارت بأصبعها إلى مقال في الصحيفة، وتركتها ومضت.
نظرت في الصحيفة فوجدت مقالا طويلا، عنوانه “صديقي المجنون سعد حلاوة”، للشاعر الشهير نزار قباني يرثي فيه القتيل بلغة شعرية رقيقة، لا أستطيع أن أنقل المقال كله، ولكني أقدم لكم بعض فقراته لتتأكدوا أني لا أكره سعد حلاوة، وتمنيت ألا يفعل ما فعل خوفا على حياته التي ضاعت هدرا، في وطن لا يعطي قيمة لأبنائه إلا بقدر ما يخدمون السلطة، ومعظم الناس فيه لا يفكرون إلا في أنفسهم.
ومما قاله نزار قباني، ويعارض نظرتي بالطبع:
“مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية الكبيرة العقل المتنحسة الجلد الباردة الدم، العاطلة عن العمل.. فاستحق العلامة الكاملة.. في حين أخذنا كلنا صفرا.. مجنون واحد تفوق علينا جميعا واستحق مرتبة الشرف في ممارسة الثورة التطبيقية قي حين بقينا نحن قي نطاق التجريد والتنظير.. هذا المجنون العظيم اسمه سعد إدريس حلاوة.. وعلاماته الفارقة مجنون..
حسب آخر تخطيط دماغ أجرى له قي مستشفى أنور السادات للأمراض العصبية. أما بالنسبة لنا؟ نحن أهل الجنون فإن سعد إدريس حلاوة. كان مصريا مثقفا، ومتوازناً، وهادئ الطباع، وربط قدره بتراب مصر، وبالنسبة لتاريخ المقاومة المصرية فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربي لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلي يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين في القاهرة ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر. فأخد مدفعا رشاشاً وأتجه إلى قاعة المجلس البلدي في قرية أجهور قي محافظة القليوبية واحتجز سبعة رهائن مطالباً من خلال مكبر الصوت الذي حمله معه بطرد السفير الإسرائيلي لقاء الإفراج عن رهائنه، هذا هو مجنون مصر أو مجنون الورد.. التي تناقلت وكالات الأنباء قصته باهتمام كبير قي حين قرأ العرب قصته كما يقرأون قبل النوم قصة مجنون ليلى…. وأنا أيضا ـ أحب المجانين وأعتبر نفسي عضوا طبيعيا ً في حركتهم وأعتبرهم أشجع وأصدق حزب سياسي يمكن أن ينضم إليه الإنسان العربي..
سعد حلاوة كان الأصدق والأصفى والأنقى فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية وبيانات جبهة الصمود والتصدي.. فقرر أن يتصدى على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته، إذا كان سعد حلاوة مجنونًا فيجب أن نستحى من عقولنا وإذا كان متخلفا عقليا فيجب أن نشك في ذكائنا.. هو قاوم افتتاح السفارة الإسرائيلية في القاهرة على طريقته الخاصة فقاتل وقتل.. في حين نحن لم نقاتل ولم نقتل.. كل ما فعلناه أننا حملنا ميكروفوناتنا.. وبدأنا البث المباشر.. أذعنا أسطوانة أخي جاوز الظالمون المدى وبكينا.. واستبكينا وفرطنا كل دواوين شعراء الأرض المحتلة.. ورقة ورقة.. هددنا برفع مليون علم فلسطيني لقاء رفع علم إسرائيلي واحد.. أخرجنا من المخازن لافتات نحتفظ بها من أيام وعد بلفور.. ومشينا في مسيرات اشترك فيها كل الأموات الذين عاصروا الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي، وأخرجنا من أرشيف الإذاعة كل المونولوجات والطقاطيق والاستكشات السياسية التي نخزنها في مؤنة البيت، وكل الخطابات الحماسية ابتداء من خطابات ميرابو وروبسير والحجاج بن يوسف الثقفي.. إلى خطابات أدولف هتلر من إذاعة برلين.. وعندما دخل السفير الإسرائيلي الياهو بن اليسار إلى قاعة العرش وقدم أوراق اعتماده سفيرا فوق العادة ومطلق الصلاحية إلى الملك محمد أنور بن فاروق بن فؤاد بن السادات توقفنا عن إذاعة القرآن الكريم ونصبنا الصلوات وبدأنا نستقبل المعزين..
سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل الذي كان أجمل منا جميعا وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربي الذي يقف في بلكونة اللامبالاة في يوم 26 فبراير 1980م ويتفرج على موكب السفير.. ولكن العقل العربي لا يصاب.. فهو عقل مصفح ضد الرصاص وضد المعارضة وضد الاحتجاج وضد النابالم وضد القنابل المسيلة للدموع.. العقل العربي عقل متفرج واستعراضي وكرنفالي لذلك كان لابد من ولادة مجنون يطلق الرصاص على اللاعبين والمتفرجين جميعا في مسرح السياسة العربية.. ومن هنا أهمية سعد حلاوة فقد أرسله القدر ليقول جملة واحدة فقط ويموت بعدها: هذه ليست مصر.. هذه ليست مصر.. والقصة انتهت كما تنتهي قصص كل المجانين الذين يفكرون أكثر من اللازم ويعذبهم ضميرهم أكثر من اللازم.. أطلقوا النار على مجنون الورد حتى لا ينتقل جنونه إلى الآخرين.. فالجنون يتكلم لغة غير لغة النظام لذلك يقتله النظام..
من هو سعد حلاوة؟
جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية.. أنه خنجر سليمان الحلبي المسافر في رئتي الجنرال كليبر..
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام..
وصحافة مصر التي لا تصدر
وكتاب مصر الذين لا يكتبون
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار
وأحزانها الممنوعة من الانفجار …….
***
أؤكد مرة أخرى وثالثة ورابعة أنني رجل له قلب، وله مشاعر، وأحب بلدي مثل سعد إدريس حلاوة. ليس معنى كوني ضابطا أن الخشونة تصل إلى هدم القيم والأخلاق التي يؤمن بها الطيبون في بلادي، إنني مضطر أن أنفذ الأوامر بغباء أحيانا، ولكنني أحاول أن أستخدم ذكائي في تنفيذ بعضها، ولو أن الداخلية استخدمت الذكاء في الأمور كلها لتغيرت الصورة السلبية التي يأخذها الناس عنا.. وعندهم مثل مشهور: “إن كان ذراعك عسكري اقطعه!”.
لو كان الوزير صبر قليلا، وحاول إقناع سعد بالاستسلام وبيّن له أن التزامات الدولة تفرض قبول بعض الأمور الصعبة و. فلعله كان استجاب، وانتهى الأمر بهدوء، ويعلم الوزير أن الناس لم تصدق أن سعد إدريس حلاوة مجنون، على الأقل أهل قريته، ومعارفه في القرى المجاورة والشاعر نزار قباني! ثم إن الوجدان يشعر أن حكاية الجنون هذه ما هي إلا سبب غير مقنع!
الضباط والعساكر يعلمون أن الوزير يفرح بالكوارث التي يشبع فيها لطما بعد أن يقتل ويجرح ويصيب، لا مجال لديه لاستخدام العقل، بل إنني عرفت أنه يتحفز دائما لتجريم الكتاب والمثقفين، وكان يتصل بنفسه برؤساء التحرير ليسأل عن كاتب كتب مقالا لم يعجبه، أو قرأ عنه تقريرا من أمن الدولة أثار شكوكه وهواجسه. إنه حريص على إشعال النار ليظهر في الصورة كأنه حامي حمى الكرسي الذي يجلس عليه الرئيس، أجل! وصل إلى وظيفة نائب رئيس الوزراء، ولكنه لم يتغير، وراح يكسب كل يوم أعداء للحكومة من التيارات كلها، وعلى رأسها الحركة الإسلامية.
كان الرئيس أوشك أن يتسلم بقية سيناء منزوعة السلاح وفقا لاتفاقيات الإذعان التي وقعها مع العدو في أميركا، وكان حريصا أن تمضي الأمور في داخل البلاد هادئة، حتى لا يجد اليهود الغزاة ذريعة لعدم الانسحاب، وكان هناك طريقان: الأول: معالجة الأمر بحكمة وهدوء، وإقناع قادة الأحزاب والقوى السياسية بحقيقة الأوضاع ليتوقفوا عن إثارة الجمهور كي يتم الانسحاب، والطريق الآخر: اعتقال المعارضة، وإدخالها السجون ليضمن الهدوء والاستقرار، ولأن الوزير لا تعنيه قيمة المواطن فقد ضغط من جانبه على الرئيس، كي يجمع “الأولاد” الذين يثيرون المشكلات في الصحف والأحزاب والاجتماعات، ويعني بهؤلاء الأولاد قادة كبارا وسياسيين مشهورين وزعماء جماعات، وصحفيين وعلماء دين إسلامي، ورجال دين من الكنيسة، و… بلغ عددهم 1560، في قائمة نشرتها الصحف، بالإضافة إلى الآلاف من أبناء الحركة الإسلامية الذين لم تعلن أسماؤهم!
ومع ضغط اليهود الغزاة والأمريكان من جانب آخر على الرئيس، ازداد الاحتقان، وبلغت الكراهية حدها الأعلى بين قطاعات كثيرة في المجتمع وبين السلطة، بعد تغييب السياسيين والناشطين في السجون تحت لافتة “التحفظ”!
ولقي الرئيس مصرعه يوم زينته!
يوم السادس من أكتوبر الذي أمر فيه القوات المسلحة بالعبور، وإنهاء خرافة الكيان الصهيوني الذي لا يقهر.. كان المشهد مريعا، قتله ضباط من الجيش، وقتلوا آخرين، ونجا نائب الرئيس الذي تولى السلطة من بعده! واتهم اليساريون الحركة الإسلامية بقتله، وأعلنوا عن خبيئة الاستبداد والطغيان والأنانية في نفوسهم حين زعموا أن من أفرج عنهم الرئيس من الإسلاميين هم الذين قتلوه! وكأنّ من يقول لا إله إلا الله ينبغي أن يعيش في السجون مهما كان بريئا أو مسالما.
قلت لمساعدي العميد طه الجعفري صاحب العقل المتزن:
– اليساريون أقلية، ولكنها تريد أن تكون وحدها على حجر النظام، وتستمتع بالامتيازات الحرام دون أن يشاركها أحد!
قال بهدوء يعرف به دائما:
– اليساريون العرب يخدمون الشيطان في سبيل مصالحهم الشخصية والحزبية. يتكلمون عن الديمقراطية وهم أول من يقوضها، يقودون في النهار المظاهرات ويرفعون الشعارات ضد الأنظمة الحاكمة، ولكنهم في الليل يبيتون في سريرها.
ضحكت، وقلت له:
– لقد صرت سياسيا معارضا، ونسيت أنك ضابط!
– لم أنس أني ضابط. وهذا لا يمنع أن أسرّ إليك برأيي. بالطبع لا أستطيع إعلان موقفي على الملأ، فأنا ضابط في جهاز يجب أن يخدم الحكومة قبل الشعب، في الغرب الشرطة محايدة، وتخدم القانون قبل الحكومة.
قلت له حزينا:
– تأثرت لمقتل الرئيس بين من يحمونه: الأمن والشرطة والجيش!
– الذي قتله وزير الداخلية.
– كيف؟
– لقد شحن نفوس الناس وصدورهم بالاعتقالات، وحرض الرئيس بالتقارير المبالغ فيها، فدفع الرئيس إلى شتم القادة والزعماء المعارضين وقال عن أحدهم: “إنه مرمي في السجن مثل الكلب!”، وهو عالم دين جليل تتأثر به الألوف من المصلين الذين يستمعون إلى خطبه، لقد قدم الوزير ذريعة الانتقام والثأر!
عقبت على كلامه بأسى:
– لقد حصره اليهود والأمريكان ووزير الداخلية في الزاوية، فجانبه الصواب وهو يخطب بالساعات، يهاجم من في الداخل والخارج، يهجو السياسيين والحكام العرب، وقام الوزير بإكمال المهمة فقدمه لقمة سائغة لمن قتلوه!
ثم قلت للعميد:
– أتذكر المثل القائل من قتل يقتل، ولو بعد حين؟
– أجل!
– لقد شارك السادات في قتل أمين عثمان الوزير الوفدي الذي شبه العلاقة بين مصر وبريطانيا بالزواج الكاثوليكي!
– تذكرت الآن أنني قرأت عن محاولة عبد الناصر وخالد محيي الدين اغتيال مصطفى النحاس زعيم الوفد ورئيس الوزراء، ولكنها فشلت.
– المشكلة في بلادنا أننا لا نتفاهم ولا نوظف خلافاتنا من أجل مصالحنا. انظر كيف يساوم الإرهابي مناحيم بيجن بمواقف المعارضة في الكنيست ويحقق بها مزيدًا من المكاسب؟ أتصور أنه يخطط للمعارضين ما يقولونه ليخبر من يفاوضه عندنا أنه لا يستطيع أن يوافق على مطالبه، ثم يفسر ذلك: “لأنني لا أحكم وحدي”. إنه يضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية والخلقية، ويضع أمامه ما تقوله المعارضة، فيحصل على مزيد من التنازلات.
أما عندنا…
سرحت قليلا، ثم قلت للجعفري:
– ما أسهل استخدام النبوت عندنا لإسكات المعارضة إلى الأبد!
***
لا تفارقني صورة سعد إدريس حلاوة. تطاردني بعد أن خرجت إلى التقاعد. أحيانا يسألني بعض أبنائي عنه، حين تأتي على ذكره بعض الصحف الحزبية، فأجيبهم إجابة مقتضبة لا تحمل مضمونا مفيدا، ولكني في داخلي أشعر أن الولد كان على حق.
قبل مصرع السادات بثلاثة أعوام تقريبا قام فلسطينيون باغتيال الكاتب المصري يوسف السباعي في قبرص لأنه سافر مع الرئيس إلى القدس، وأيد مبادرته للسلام. كان السباعي رئيسا لتحرير الأهرام، وله كتابات متعاطفة مع شعب فلسطين، ولكن المناضلين ضلوا الطريق، بدلا مِن قتل مَن قتلوا ذويهم وطردوهم من الديار، قتلوا شقيقا لهم، وهذه مأساة أن نقتل أنفسنا بدلا من العدو الذي لا يكف عن قتلنا على مدار الساعة والعدوان على منشآتنا وأراضينا. هل تذكرون كيف دمرت طائرات العدو مفاعل العراق النووي ومناحم بيجين يجلس مع السادات في الإسماعيلية؟ إنني أعجب لتصرفاتنا الغريبة. أسد على وفي الحروب نعامة، أصارحكم أن عدم التفاهم والتحاور والتشاور فيما بيننا هو سبب كل الكوارث.
المفارقة العجيبة أن العام الذي وقع فيه الرئيس اتفاقيات الصلح مع العدو ، أعني عام 1979، كان عاما مليئا بالمفاجآت والأحداث التي غيرت كثيرا من موازين القوى، لدرجة أن بعض المحللين عدّه بداية القرن الحادي والعشرين، ففيه انتهى دور شخصيات بارزة علي المستوى المحلي في مصر، مثل بطرس غالي ومحمد حافظ إسماعيل، وانتصر الخميني على الشاه بإيران، وصعد الشيعة إلى سدة الحكم، وارتقى صدام حسين السلطة رسميا واشتعل الصراع بين السنة والشيعة، وبدأت الحرب بين بغداد وطهران التي استمرت ثماني سنوات، وأهلكت الزرع والنسل، واحتل السوفيات بلاد الأفغان، وجلس البابا البولندي يوحنا بولس الثاني على كرسي الفاتيكان، وكانت زيارته لوطنه بولندا بداية الانهيار للكتلة الشرقية في أوروبا، واعتلى حكم الصين الرئيس الإصلاحي دينج شياو بينج الذى أخرج الصين من عزلتها وفتح أبوابها للاستثمارات الأجنبية، حيث بدأ صعود العملاق الصيني اقتصاديا وسياسيا!
الدنيا تتحرك ، أما نحن فقد تجمدنا ثم انحدرنا، ويا ليتك يا سعد وفرت دمك، فقد انفتح الباب للصوص والمغامرين الذين تعاملوا مع العدو في شركات متنوعة، وحققوا من وراء ذلك ثروات هائلة من الحرام، وابتلينا بوزير زراعة فتح لليهود أبواب مصر لتقديم تجاربهم الزراعية التي نجحت في تسميم حياتنا وإصابتنا بأمراض خطيرة، وذلك عندما هرمنوا الزراعات المصرية العريقة، وأفقدوها طعمها ورائحتها، وتسللوا إلى عصب حياتنا دون ضجيج، وهأنذا وقد بلغت أرذل العمر أشعر بالأسى والقهر حين أعلم أن مئات الشباب المصري ذهبوا إلى الكيان الصهيوني للعمل في مهن حقيرة، وعرفوا الشيكل واللغة العبرية..
لماذا ضيعت حياتك يا سعد؟ أبكي عليك، وأبرأ إلى الله من كل تهمة وجهت إليّ بإيذائك، وآسف لبعض القوى السياسية التي تستخدم عمليتك لتصفية الحسابات، والانتقام ممن لا يستطيع الرد عليهم، ولعلي أختم كلامي بمثل إسباني، يقول:
“لذة الانتقام لا تدوم سوى لحظة، أما الرضا الذي يوفره العفو فيدوم إلى الأبد”
وأدعو الله أن يغفر لي ولكم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
***
(تمت)
شوال1443هـ / مايو 2022م
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
سرديات أخرى للمؤلف:
رائحة الحبيب (مجموعة قصصية عن حرب رمضان).
الحب يأتي مصادفة (رواية عن حرب رمضان).
زمن البراءة: النيل بطعم الجوافة (الجزء الأول من السيرة الذاتية).
زمن الهزيمة: النيل لم يعد يجري (الجزء الثاني من السيرة الذاتية).
زمن الغربة: النيل لا طعم له، (الجزء الثالث من السيرة الذاتية).
شغفها حبا، (رواية).
محضر غش، (رواية).
شكوى مجهولة، (رواية).
منامات الشيخوخة، (قصص).
الرجل الأناني(رواية)..
اللحية التايواني(رواية).
الشمس الحارقة (رواية).
مكر الليل والنهار (رواية).
مالك الملك (رواية).
تغريبة معروف الإسكافي (رواية).
مجلة الأنس! (رواية).
أم سعيد (رواية).
شجرة الجميز (رواية).
المجنون الجميل (رواية)
الجرابيع (رواية).