أورد ابن كثير، في «البداية والنهاية»، أن الخليفة أبا بكر الصديق لما بويع بالخلافة، خطب في الناس وقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أزيح علته إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخذ مِنْهُ الْحق إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدْعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم».
فقد أعلن الخليفة الصديق رضي الله عنه أصول خلافته ومنهجه في ولايته وسياسته الشرعية في التعامل مع رعيته، وذلك من خلال النقاط الآتية(1):
أولاً: مصدر التشريع في دولة الصِّدِّيق:
مصدر التشريع هو القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، حيث قال أبو بكر: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
ثانياً: حق الرعية في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
أقرّ بحق الرعية في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها؛ بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه، وإلزامه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي، حيث قال أبو بكر: «فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني».
ثالثاً: طلب المناصرة والمناصحة:
طلب الصِّدِّيق من الناس أن يناصروه إن كان على الحق، وينصحوه إن حاد عنه، ويظهر هذا في قوله: «فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، والأمة واجب عليها أن تناصح ولاة أمورها، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: «لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»(2).
رابعاً: إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
العدل هو الدعامة الرئيسة في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، حيث لا ظلم لأحد ولا حق إلا وهو مضمون لصاحبه، وفي هذا قال أبو بكر: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله».
وكان الصِّدِّيق قدوة في عدله، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عونًا له في العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن أبا بكر الصديق قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر، وعمر، قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد، فقال عمر: والله لا يستقد ولا تجعلها سُنة، قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها(3).
أما تطبيقه للمساواة، فكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر، أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلَّى إلى القبلتين، ومن أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب(4).
خامساً: الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
لقد أعلن الصِّدِّيق مبدأ أساسيًا تقوم عليه خطته في قيادة الأمة؛ وهو أن الصدق بين الحاكم والأمة، وهو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر المهم في قوة الأمة؛ حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها، وفي هذا قال أبو بكر: «الصدق أمانة والكذب خيانة».
سادساً: إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
فقد تلقى أبو بكر الصديق تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهدى، والشر والخير، ولهذا أعلن في سياسته أنه لن يتخلى عن الجهاد في يوم من الأيام.
وفي هذا قال أبو بكر: «وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل»، وهو في هذا يستحضر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم»(5).
سابعاً: إعلان الحرب على الفواحش:
قال أبو بكر: «ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء»؛ وهو هنا يذكّر الأمة بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»(6)؛ فالفاحشة داء المجتمع العضال، وقد حرص في سياسته على طهر الأمة ونقائها، وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو يريد بذلك أمة قوية لا تشغلها شهواتها، ولا يضلها شيطانها، لتعيش أمة منتجة تعطي الخير، وتقدم الفضل لكل الناس.
ثامناً: شعور الراعي بالمسؤولية والتقصير دائماً:
الحقيقة أنها مسؤولية مشتركة بينهما في صلاح المجتمع، ليستمرُّوا على العمل بجدٍّ واجتهاد، فيتوجَّهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما، وهذا مأخوذ من قوله رضي الله عنه: «أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم».
والخلاصة أن السياسة الشرعية للخليفة الأول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في التعامل مع الرعية تظهر في خطبته الأولى، وتقوم على إعلان المرجعية التشريعية إلى الله ورسوله، ثم تؤكد رحمة الرعية والتواضع لهم وقضاء حوائجهم، ونصرة مظلومهم، وقبول نصح الناصح ورأي المشير.
______________________
(1) انظر: الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق: د. علي الصلابي، ص 141. وانظر: كتاب آثار ابن باديس: د. عمار الطالبي، ص 401.
(2) صحيح مسلم (55).
(3) تاريخ الدعوة إلى الإسلام في عهد الخلفاء، ص 410.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 201.
(5) أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887).
(6) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح (4019).