أحب أن أقدم بين يدي كلامي هذا كلمة أو كلمتين لا بد منهما؛ الأولى: أن أبتهل إلى الله أن يبرئ قلوبنا من الجبن والخور والبخل، وأن يؤيدنا بالصبر والقوة، وأن يرفع عنا غضبه ومقته، فقد كتب علينا الجهاد في سبيله بما استطعنا، وأحب لكل كاتب وقارئ أن يتوب إلى الله مما اكتسب من إثم يده أو قلبه أو لسانه، ليتجرد إلى الجهاد وهو طاهر مصمم لا تلفته الدنيا عن الدفاع عن الحق.
والثانية: أني كنت كتبت عن قضايا العرب وعن فلسطين، فكنت لا أزال أذكر الإسلام وأشفعه بذكر نصارى الشرق، لأني أعدهم منا ومن أنفسنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وكنت أرى أن نصارى الشام والعراق قد بذلوا من الجهود في قضايا العرب ما صرح عن مكنون أنفسهم وعن إخلاصهم الذي لا يدفع، وأنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي ومن العالم الإسلامي، وكنت أتخوف أن يقف قبط مصر مترددين عن المشاركة الصريحة في جهاد العرب والمسلمين في مسألة فلسطين، ولكني أشهد الله اليوم أن قبط مصر قد ملؤوا قلوب العرب والمسلمين غبطة بهم وإكبارًا لهم، وحرصًا على مودتهم حرصًا لن يعمل فيه بعد اليوم دس ولا كيد ولا وقيعة، إنه لا يحل لامرئ مسلم أو عربي بعد اليوم أن يرتاب أو يتشكك في نبل هؤلاء الإخوان الذين نصرونا في ساعة العسرة لا تدفعهم إلى هذه النصرة رغبة ولا رهبة.
وسأسجل في هذه الكلمة مآثر لرجلين من أجل النصارى شأنًا، لأنهما وقَفَا في الجهاد موقفًا يوجب علينا أن نخلد ذكرهما في تاريخ العرب وتاريخ المسلمين، ولا سبيل إلى جزاء هذين الرجلين إلا بأن نرفع ذكرهما في هذه الساعة وإلى أبد الدهر، لأنهما قطعا السبيل على كل خبيث من شياطين السياسة القذرة التي انبعثت في أوروبا وأمريكا، وعلى شياطين اللؤم الصهيوني الدنيء.
أما الأول فهو الشيخ الجليل الصادق غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب، فقد اجتمع المسلمون والعرب في المسجد الجامع الأزهر في يوم الجمعة 22 المحرم 1367هـ، فإذا الناس يفاجؤون بمقدم القمص متياس الأنطوني سكرتير غبطته مندوبًا من قبله، ومعه إخوانه من رؤساء الأقباط في مصر، القمص جرجس إبراهيم، رئيس الكنيسة القبطية الكبرى، والقمص عبد المسيح سعد، والقمص مرقص غالي، ودخول هؤلاء الأربعة الكرام إلى المسجد الجامع في ساعة الجمعة، ونيابتهم عن غبطة البطريق الأعظم في شهود هذا اليوم المشهود وخطبتهم الناس في هذا المسجد، ومشاركتهم في أكبر مؤتمر إسلامي في مصر، قد دل دلالة صريحة على أن الأنبا يوساب البطريق الأعظم، هو رجل قد نوّر الله قلبه بالحق، وآتاه من الفطنة والصدق والأمانة في دينه وخلقه ما يجعل عمله هذا أمانة في عنق كل مسلم وعربي، يحميها ويدفع عنها ويعتز بها ويكرم أصحابها في عامة أمورنا وخاصتها، وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه غير متردد، فدل ذلك على أنه رجل سياسي مخلص، وعلى أنه يدرك تمام الإدراك كل ما يحيط بهذا الفجور الصهيوني من الخبائث، وعلى أنه يأبى أن يدخل بين أقباط مصر ومسلميها مفسد يبغى الوقيعة.
ومن قبل ما وقف هذا البطريق الأعظم موقفًا رد كيد البريطانيين في نحورهم، وذلك في حادثة الزقازيق التي دبرتها بريطانيا لإفساد ما بين المسلمين والأقباط، فلولا حكمة هذا الرجل النبيل، لكان هذا الحادث البغيض سببًا في اشتعال نار الفتنة التي أشعلت بريطانيا مثلها من قبل لتفرق كلمة الأمة تفريقًا يجعل بعضها لبعض عدوًّا.
ونحن نحمد الله إذ جعل في إخواننا القبط رجلًا كهذا الرجل الجليل، يقف حارسًا يقظًا على أمته وأمتنا، يرد عنها كل مكيدة، وما دام في الأقباط هذا الرجل وأمثاله، فالمسلمون والعرب جميعًا لا يبالون بعد اليوم أن يبذلوا مهجهم في الذود عن إخوانهم، وفي حمايتهم، وفي الدفع عن كل شيء يسوؤهم، ما بقي على ظهر هذه الأرض مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، إنه دَين في أعناقنا للقبط، نسأل الله أن يهبنا القدرة على أدائه وإن أَبَوْا هم أن يقبلوا عن هذه المأثرة جزاء.
وأما الرجل الآخر فهو كصاحبه يتلألأ قلبه بنور الإخلاص والإيمان، تكلم فأبان عن نفس حرة أفزعت «اليهود المسؤولين في مدينة الإسكندرية»؛ أي يهود مصر، فأقبلت طائفة منهم تريد أن تثني هذا الرجل الجليل عن إذاعة حديثه، فأجابهم بأنه ما قال ما قال إلا وهو يعتقد أنه قول صريح سليم، وليس إقحامًا للدين في السياسة، وأنه يقصد حماية التراث المقدس للمسيحية، وأنه إنما يتكلم عن عقيدة وإيمان بما يقول، ذلكم هو الرجل النبيل غبطة البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الإسكندرية وأفريقيا للروم الأرثوذكس.
وقد جاء في هذا الحديث أن غبطة البطريق الأعظم للروم قد دهش لإنشاء دولتين في فلسطين، ودهش أيضًا من أن تكون أمريكا والاتحاد السوفييتي هما الداعيتين إلى هذا التقسيم، ثم قال: «إنه لتزداد دهشتنا أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المحاولة الجريئة رغم أحداث التاريخ الدالة على فساد هذه الفكرة وخطرها، ولهم العبرة فيما حاوله الإمبراطور جوليان الروماني، لا ندري كيف فكرتا في وضع الأراضي المسيحية المقدسة في حماية أولئك الذين رغبوا دائمًا، جماعات وأفرادًا، في أن يعيشوا حتى يروا اليوم الذي لا يسمع فيه ذكر للمسيح، وهل يستطيع إنسان أن يتصور اليهود حرسًا وحماة للأمكنة المقدسة، وهم الذين سيعمدون إلى تدنيسها بمجرد السيادة فيها؟».
«ونحن نرى أيضًا أنه لا يمكن أن يسمح للفاتيكان أن تكون له السيادة في فلسطين، فإن الحروب الصليبية قد برهنت على فساد هذه الفكرة، ولهذا فإننا نحن الروم الأرثوذكس نرى في حالة إلغاء الانتداب الدولي على الأراضي المقدسة، أو عدم وجود دولة عربية مكان هذا الانتداب، أن تعطي للمسلمين حماية هذه الأراضي، لأنهم منذ مارسوا حكمها في هذه القرون الطويلة، برهنوا على أنهم جديرون بثقتنا».
وهذا كلام أقل ما يقال عنه إنه كلام رجل مؤرخ عالم بصير لا يدفعه إلى ما يقول هوى لشيء ولا رهبة لمكروه، فإن غبطة البابا كريستوفورس قد قضى طفولته وشبابه في فلسطين، قد عرف بنفسه شعور اليهود ضد العرب وضد الأرض المقدسة، كما قال متكلم بلسان البطريركية الرومية.
وقد أثبتُّ حديث البطريق الأعظم بتمامه لأنه سوف يصبح وقائله جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإسلام، ولأننا نحن المسلمين نحب أن نحمل المنن في أعناقنا فنحافظ عليها ونرعاها وندافع عنها ونجزيها أحسن الجزاء، إن حديث هذا الشيخ الأجل سوف يصير من تاريخنا يرويه أربعمائة مليون عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وهو حديث يفسر كل ما كنا نقول به من مشايعة الدول الأوروبية والأمريكية للصهيونية الفاجرة، قائمة على الصليبية الحمقاء.
فهم يحاربوننا حربًا صليبية لا يستثنون فيها مسلمًا ولا نصرانيًّا في الأرض الإسلامية والعربية، وقد كان بعض الناس يعيب علينا هذا الرأي، ولكن حديث البطريق الأعظم قد كشف الغطاء عن كل ذلك، ومهّد للتاريخ أرضًا جديدة يدرس فيها هذا الصراع بين أهل الشرق العربي الإسلامي من مسلمين ونصارى، وبين الغرب الصليبي من نصارى ويهود.
ولكن نصارى الشرق غير نصارى الغرب، فهؤلاء قوم ملئت قلوبهم أحقادًا صليبية مظلمة لا عقل فيها ولا ضمير لها، أما نصارى الشرق فهم يعرفون تمام المعرفة أن نصارى الغرب قوم مفترون جاهلون متعصبون يريدون أن يدنسوا هذه الأرض المقدسة باليهود عداوة للمسلمين غير ناظرين إلا بالعين الصليبية البغيضة، لا بعين الإنصاف والحق كما ينظر نصارى المشرق، وحسبنا هذا البيان من البطريق الأعظم، فإنه حسنة لن ينساها له مسلم إلى أن تقوم الساعة.
______________________
المصدر: مجلة الرسالة، العدد (754)، ديسمبر 1947م.