إنها رحلة الحب الحقيقي الصادق، ورحلة الصبر والتوكل على الله تعالى والثقة بوعده، التي ما إن يسلك المسلم طريقها في أي زمان ومكان إلا ويغمره الإحساس بالأمان، ويغشاه الشعور بالطمأنينة، وتفيض عليه بحار من النور والسكينة.
سار فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد خرجا معاً من مكة مهاجرَين ليغرسا بذور الإيمان والأمان في أرض أخرى تقبل هذه البذور، ويتعاون أهلها في ريها ورعايتها حتى تكبر وتثمر أمَّة مؤمنة يباهي بها الأمم يوم القيامة.
إنها رحلة الهجرة النبوية المباركة، التي كانت مع ما فيها من آلام ومتاعب ومشقة وبلاء، رحلة حياة ونور لقلوب كثير من الناس، ورحلة أمان لنفوسهم الحائرة التي كانت تتيه وتتردد في ظلمات الجهل والشرك، وتعيش حياة جاهلية وثنية، وقد شاء الله تعالى أن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم فيها الصحبة الصالحة التي تعينه على عقبات الطريق وتخفف عنه من عنائه وتضفي جواً من الراحة والسكينة في طريقها الطويل وتشاركه حاله، فاختار له أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وخصه بهذا الفضل العظيم، وأثبت له تلك الصحبة المباركة فقال سبحانه: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
قال السعدي: «وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة».
وقال القرطبي: «فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له، وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه، ومواساته له بماله».
وقد روي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أبا بكر؟»، قال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. (تفسير البغوي).
بشرى وأمل
وتتجمع قوى الشر آنذاك لتطفئ نور الله! وتتآزر وتجتمع لتكسر السراج المنير الذي يحمل النور إليهم! لكن هيهات هيهات أن يفعلوا، وأنَّى لهم ذلك والله تعالى يقول: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8)، ألا ترى أن الغيث تحمله السحب الثقيلة السوداء، وأن ظلام الليل يزيحه نور الصباح، وأن العسر يعقبه الفرج، والحزن يأتي من بعده الفرح والسرور؟!
«لا تحزن إن الله معنا»، إنها البشرى والأمل التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرسها في قلب حبيبه وصاحبه أبي بكر لكي لا يحزن أو يخاف وهو يسمع أصوات المشركين ولغطهم وصخبهم خارج باب الغار تتردد، يقول أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (رواه مسلم)، فكانت كلمات التثبيت هذه بشرى تحمل بين حروفها الأمل القادم، وقد تنزلت على قلب أبي بكر برداً وسلاماً، فكانت بمثابة الدواء الشافي لخوفه.
لا تحزن
إن مما يُذهب الحزن أو يخفف منه بعد اللجوء إلى الله تعالى، مشاركته مع صديق حميم أمين يعرف كيف يعالج حرارته ويخفض منها؛ ليخرج الحزين من مشاعر اليأس التي يورثها الحزن في النفوس، قد يكون هذا الصديق أمك أو أباك، أو أختك وأخاك، أو صديق العمل أو الدراسة المقرب لديك، أو معلمك الناصح، المشفق عليك.
لا تحزن، إن الله معنا، كم نحتاج كلنا هذه الكلمات في ساعات الشدة والضيق، وفي أوقات الكرب والخوف التي تزعج القلوب وتنزع منها سعادتها وسرورها، وتعطل همتها ونشاطها، وكم نحتاج لليد الحانية التي تمسح على الجراح برفق حتى تلتئم فتداويها وتذهب ما بها من داء، فكم من حزين أذهب حزنه كلمة طيبة، وفرج همه نصيحة صادقة، وأزال غمه أمل يُغرَس في نفسه، وكم من مكروب قل كربه بسبب كلمة تثبيت نطقت حروفها بالحب والأمل!
فإذا وجدتَ صديقك أيها المسلم وحيداً غريباً منقطعاً عن أهله وأسرته رغماً عنه؛ فقل له: لا تحزن فإن الله معك، يكلؤك ويرعاك ويطعمك ويسقيك، يزيل همك ويذهب حزنك ويلم شملك عما قريب بمن تحب.
وإذا وجدتَ إنساناً محروماً من الولد فلا تذكر له المشاق في تربية الأولاد ومتاعب مسؤوليتهم، بل اغرس في نفسه وردة الرضا بأمر الله، وذكّره بضرورة الأخذ بالأسباب مع توكله على الله الوهاب، وقل له: لا تحزن فإن الله معك.
وإذا ضاقت سبل الرزق بأحد وسُدَّت أمامه فرص العمل فذكِّره ألا يحزن لأن الله معه، وهو سبحانه الرزاق القادر على أن يزيد في رزقه وييسر له أمره، وازرع الأمل في نفسه ولا تزدهم يأساً وإحباطاً.
وإذا قضى الله أمراً وأصيب المسلم في ماله أو صحته أو أهله أو أحبابه، أو دمر بيته ومدينته وشرد أولاده وعشيرته وفقد أسرته وجيرانه؛ فكن لهم عوناً وصحبة، بالحب والأمل.
ولنعلم جميعاً أن هذه هي حال الدنيا، فيأخذ كلٌّ منا نصيبه منها ولا يتنافس فيها، وإذا أردنا داراً بلا أحزان فليس إلا الجنة، فلنشمر لها، ولنعمل من أجلها؛ حتى نكون من أهلها، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر).