نجحت عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، في خلق حرب داخلية وتأجيج خلافات كبيرة كانت مختفية داخل الكيان الصهيوني بين العلمانيين والمتدينين، مع عودة ظهور عقدة تجنيد «الحريديم» إلى العلن، مرة أخرى، بعد محاولات نتنياهو إطفاءها أو إخفاءها، عمدًا، وعمله على إبعاد الحريديم عن المشهد العسكري للأبد.
نقص عددي
من بين المشكلات الحقيقية التي ظهرت منذ الأيام الأولى للحرب الصهيونية على قطاع غزة، بجانب توريد الأسلحة من الولايات المتحدة، هي أزمة التجنيد في الجيش الصهيوني واحتياجه إلى جنود وقوة بشرية بعدد كبير، إذ بين يوم وآخر، يطالب مسؤولون وقادة عسكريون، على رأسهم لابيد، وغالانت، بوجوب تجنيد اليهود الحريديم لسد النقص العددي الواضح في القوة العسكرية للجيش، خاصة مع إطالة أمد الحرب على غزة.
وفي الأول من يوليو الجاري، شدد وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت على حاجة جيش الاحتلال إلى 10 آلاف جندي إضافي، بشكل عاجل، لافتًا إلى أمر يغفله البعض، وهو ضرورة مساواة أبناء المجتمع «الإسرائيلي» ككل في التجنيد للجيش الصهيوني، بحسب ما نقلت عنه صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بدعوى أنه من الضروري أن يكون التجنيد مقبولاً لدى جميع الفصائل الصهيونية، وأولئك الذين يخدمون في الجيش؛ بمعنى أن كل الشرائح السكانية العلمانية داخل الكيان يسودها الغضب العارم من عدم تجنيد شريحة المتدينين «الحريديم» في بلادهم وعدم انضمامهم للجيش؛ وهي الأزمة التي فجَّرتها العملية العسكرية لحركة «حماس» ونجاح المقاومة الفلسطينية في تكبيد الجيش الصهيوني خسائر بشرية فادحة.
تقسيم الدولة
الغريب أنه رغم مرور 76 عامًا على إنشاء الكيان الصهيوني، فإنه لا يوجد إطار قانوني يتيح التمييز بين طلاب المدارس الدينية «الحريدية» وغيرهم من التجنيد بجيش الاحتلال، وهو ما أكدته المحكمة العليا الصهيونية، في 25 يونيو الماضي، حينما قررت وبالإجماع تجنيد طلاب «الحريديم»، وتجميد ميزانية هذه المدارس، في خطوة اعتبرها مئير بروش، وزير القدس والتراث الصهيوني، وهو وزير متطرف من حزب «يهدوت هتوراة» الحريدي، خطوة ستؤدي إلى تقسيم الدولة، مضيفًا أن فرض التجنيد الإجباري على «الحريديم» سيؤدي إلى إقامة دولتين؛ دولة علمانية وأخرى دينية يتفرغ فيها اليهود لدراسة التوراة.
والثابت أن القانون الصهيوني يلزم كل «إسرائيلي» -باستثناء عرب 48- فوق الـ18 عامًا بالخدمة العسكرية، في وقت يثير الاستثناء الدائم لـ«الحريديم» من الخدمة، الغضب داخل الكيان، بين الفينة والأخرى، طوال العقود الماضية؛ إلا أن تخلفهم عن الخدمة العسكرية خلال الحرب المتواصلة على غزة، خاصة مع خسائر الجيش المتزايدة في القطاع قد زاد من حدة الجدل داخل الكيان الصهيوني، بعدما طالبت كل الأحزاب العلمانية، «الحريديم» أو المتدينين، بالمشاركة في تحمل أعباء الحرب.
والواضح أن جُل رؤساء الوزراء في «تل أبيب» عمدوا إلى تجنب إثارة ملف تجنيد «الحريديم» في جيش الاحتلال، حيث تمكَّن هؤلاء المتشددون من تجنب الانضمام طوال الـ76 عامًا الماضية، عبر بوابة التحاقهم بـ«المعاهد الدينية لدراسة التوراة»؛ ما يتيح لهم الحصول على تأجيلات متكررة للخدمة العسكرية لمدة عام واحد حتى بلوغهم سن الإعفاء العسكري؛ غير أن يائير لابيد، وهو على مقعد رئاسة المعارضة -كان رئيسًا للوزراء قبيل تولي نتنياهو مقاليد الأمور، في الفترة من (1 يوليو 2022 – 29 ديسمبر 2022م)- قد شدد على وجوب تجنيد «الحريديم» بالجيش لتوفير العدد المطلوب لمواجهة الجبهات السبع التي يحارب فيها الجيش الصهيوني، وهو التصريح الذي أدلى به ردًا على تحديد نتنياهو لـ7 جبهات كاملة تحارب فيها بلاده، في الوقت الراهن.
من هنا، فإن قانون المحكمة العليا يلزم حكومة نتنياهو بتجنيد «الحريديم»، وهو أمر بالغ الخطورة داخل الكيان الصهيوني، فهذا القرار يعيد فتح ملف أو أزمة «هُوية الدولة» من جديد، فقد أحدث شرخًا عميقًا داخل الكيان، فمعنى رفض «الحريديم» للخدمة العسكرية في زمن الحرب القاسية في غزة، يحوِّل «إسرائيل» إلى دولة دينية ويعقِّد من موقف نتنياهو المعقد، أساسًا، منذ السابع من أكتوبر؛ خاصة أن نتنياهو نفسه قد تبنى قانونًا يقضي بعدم فرض تجنيد هؤلاء «الحريديم»، في مارس الماضي، ليتأكد أن قرار المحمة العليا قد ضرب بقرار حكومة بلادهم عرض الحائط، وفضَّلت المصلحة العامة للكيان مقارنة بحسابات نتنياهو الشخصية، إذ إن قرار المحكمة يقضي بتحقيق «مبدأ المساواة».
المبدأ نفسه لم ترغب الأحزاب اليمينية المتشددة في تحقيقه، حيث هدد حزبا «شاس» و«يهودوت هتوراه» بالانسحاب من الائتلاف الحاكم بقيادة نتنياهو حال تطبيق قرار المحكمة العليا في بلادهم، بالتوازي مع تأييد 65% من «الحريديم» الانسحاب من الائتلاف نفسه إذا ما فُرض التجنيد على أبناء المدارس الدينية، وذلك بحسب إذاعة جيش الاحتلال.
طوال الأيام الماضية، خرج يهود متشددون إلى الشوارع الرئيسة في مدينتي القدس و«تل أبيب» للاحتجاج على قرار المحكمة، وقاموا بقطع الطرق الرئيسة، حتى إنهم هاجموا سيارة وزير الإسكان الصهيوني أوري آريئيل؛ للتعبير عن رفضهم القاطع لأي قوانين تسمح بتجنيدهم بالجيش.
يشار إلى أن عدد السكان «الحريديم»، في العام 2022م، بلغ حوالي مليون و280 ألف نسمة؛ أي بنسبة 13.3% من إجمالي سكان الكيان، مقارنة بـ750 ألف نسمة، في العام 2009م، فيما يتوقع زيادة عددهم إلى مليوني نسمة، في العام 2033م؛ بمعني ارتفاع حجمهم النسبي إلى 16% من عدد السكان.
هروب من التجنيد
على النقيض من ذلك، أكد أكثر من وزير ومسؤول صهيوني حاجة الجيش الماسة للجنود، من بينهم وزير النقب والجليل والصمود الوطني يتسحاق فاسرلوف، الذي شدد على أن الكيان يمر بواقع معقد يحتاج إلى التجنيد الإجباري لـ«الحريديم»؛ وذلك كله رغم إشارة هيئة مكافحة الفساد في دولة الاحتلال إلى أن 10% من المطلوبين للخدمة العسكرية في الجيش يدّعون الإصابة بأمراض عقلية ونفسية للهروب من التجنيد، مؤكدة في تقرير لصحيفة «يديعوت أحرنوت» أن هناك صناعة كاملة من الإعفاءات لأسباب عقلية، فالشباب يكذبون، والمحامون يتورطون في تلك العملية، والأطباء النفسيون يصدرون شهادات تعسفية للحصول على إعفاء من الخدمة لآلاف الشبان بآلاف الشواكل، حتى أثناء الحرب على غزة.
وعلى خلفية النقص العددي الحاد في القوة البشرية للجيش، وهروب البعض بادعاء الإصابة بأمراض نفسية وعقلية للهروب من التجنيد، فإن الجيش يعتزم إنشاء وحدة جديدة يطلق عليها اسم «فرقة داود»، تضم جنودًا ومجندات بلغوا سن الإعفاء ومتطوعين، وذلك بحسب ما أوضحه الموقع الإلكتروني «واللا»، من أن قوام الوحدة الجديدة سيبلغ حوالي 40 ألف مقاتل.
نجاح المقاومة
من هنا، فإن قرار المحكمة العليا الصهيونية وبالإجماع بتجنيد طلاب المدارس الدينية قد فتح بابًا كبيرًا كان مواربًا طيل العقود الماضية، وتسبب في نشوب خلافات عميقة نجحت المقاومة الفلسطينية وبقوة في تأجيجها داخل الكيان الهش، ليتبين أن المقاومة بإمكانها ليس إلحاق الهزيمة القاسية بجيش الاحتلال فحسب، وإنما بشق صف المجتمع الصهيوني، ودق المسامير في نعش كيان ضعيف وهش.
______________________
1- صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية.
https://www.ynet.co.il/news/article/hkgrs2kdc
https://www.ynet.co.il/news/article/yokra13941638
2- GLZRadio
https://x.com/GLZRadio/status/1797223112498422260?ref_src=twsrc%5Etfw%7Ctwcamp%5Etweetembed%7Ctwterm%5E1797223112498422260%7Ctwgr%5E01cc5b9f0433bcaf81fec4f6bcb58739ad86d103%7Ctwcon%5Es1_&ref_url=https%3A%2F%2Fsarabic.ae%2F20240602%2FD8A7D8B3D8AAD8B7D984D8A7D8B9-D8B1D8A3D98A-65-D985D986-D8A7D984D8ADD8B1D98AD8AFD98AD985-D98AD8A4D98AD8AFD988D986-D8A7D984D8A7D986D8B3D8ADD8A7D8A8-D985D986-D8A7D984D8A7D8A6D8AAD984D8A7D981-D8A7D984D8ADD983D988D985D98A-D8ADD8A7D984-D981D8B1D8B6-D8A7D984D8AAD8ACD986D98AD8AF-D8B9D984D989-D8A7D984D985D8AFD8A7D8B1D8B3-D8A7D984D8AFD98AD986D98AD8A9-1089434615.html
3- موقع «واللا» العبري.
https://news.walla.co.il/item/3673418
4- radio103
https://x.com/radio103fm/status/1805610869658685624?ref_src=twsrc%5Etfw%7Ctwcamp%5Etweetembed%7Ctwterm%5E1805610869658685624%7Ctwgr%5E681083f615f895608d0d01da97e000083c2388ce%7Ctwcon%5Es1_&ref_url=https%3A%2F%2Fsarabic.ae%2F20240625%2FD984D8A7D8A8D98AD8AF-D985D987D8A7D8ACD985D8A7-D986D8AAD986D98AD8A7D987D988-D8A5D8B0D8A7-D983D986D8AA-D981D98A-D8ADD8B1D8A8-D8B9D984D989-7-D8ACD8A8D987D8A7D8AA-D981D8B9D984D98AD983-D8A8D8AAD8ACD986D98AD8AF-D8A7D984D8ADD8B1D98AD8AFD98AD985-1090176110.html