شهد العقد الأخير سباقاً محموماً من جانب الحركات النسوية لنشر أفكارها في عالمنا الإسلامي تزامناً مع موجة إلحادية تمحورت جزئياً حول قضية حقوق المرأة وجعلت منها البوابة التي يتم نشر سموم الإلحاد من خلالها، وبالتالي لم تقتصر الظاهرة الثقافية على المطالب الاجتماعية والسياسية، بل امتدت لتشمل تأثيرات دينية وفكرية؛ ما أثار نقاشات واسعة حول جوهر العلاقة بين الحركات النسوية والإلحاد.
وتعود جذور الحركات النسوية إلى القرن الميلادي التاسع عشر، حيث بدأت النساء في الغرب بالمطالبة بحقوقهن الأساسية كالتعليم والعمل والمشاركة السياسية، وبمرور الزمن تطورت هذه المطالب لتشمل قضايا أكثر تعقيدًا مثل حقوق الجسد والحرية الجنسية، ما وضعها في مواجهة مباشرة مع المفاهيم الدينية التقليدية في أوروبا المسيحية آنذاك التي كانت تعتبر المرأة تابعاً للرجل.
وإزاء ذلك، أصبحت الحركات النسوية الحديثة مرادفاً لتحدي الأعراف الدينية التي تعتبرها «النسويات» مقيدة لحريات المرأة، وهو ما عبرت عنه الباحثة كارن أرمسترونغ، في كتابها «المرأة والدين»، مشيرة إلى أن الأديان التقليدية غالبًا ما تتبنى نظرة دونية للمرأة مما يعزز الهيمنة الذكورية، على حد تعبيرها.
ورغم أن كثيراً من النسويات لا يتبنين الفكر الإلحادي بشكل صريح، فإن هناك تقاطعات واضحة بين بعض التيارات النسوية والأفكار الإلحادية، فالفكر النسوي الراديكالي يتقاطع مع الإلحاد في رفضه للشرائع الدينية بذريعة اعتبارها مصدرًا للتمييز ضد المرأة.
إحدى أبرز الناشطات في هذا المجال هي الكاتبة النسوية سيمون دي بوفوار، التي ربطت بين تحرير المرأة وتحرر الإنسان من القيود الدينية في كتابها الشهير «الجنس الآخر»، مؤكدة أن الدين يُستخدم كأداة لإبقاء المرأة في حالة دونية، وأن التحرر الحقيقي للمرأة يتطلب التحرر من هذه القيود، على حد تعبيرها.
وتؤكد الباحثة الفرنسية، إليزابيث باديتتر، في كتابها «الهوية الملتبسة» أن بعض التيارات النسوية الغربية رأت في الدين، وخاصة الأديان الإبراهيمية (في إشارة إلى الديانات الكتابية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام)، مصدراً للتمييز ضد المرأة وتكريساً للهيمنة الذكورية؛ ما دفع بعض الناشطات النسويات إلى تبني مواقف إلحادية صريحة، باعتبار أن نقد الدين جزء لا يتجزأ من النضال النسوي!
وهنا يبرز السؤال عن موقف الإسلام من قضايا المرأة وحقوقها مقارنة بالطروحات النسوية الغربية، إذ يؤكد المفكر الإسلامي الراحل د. محمد عمارة، في كتابه «التحرير الإسلامي للمرأة»، أن الإسلام كرم المرأة وأعطاها حقوقاً لم تكن موجودة في الجاهلية، مثل حق الميراث والتملك والتعليم، وقدم نموذجاً للعدالة بين الجنسين يختلف عن النموذج الغربي القائم على المساواة المطلقة.
وفي السياق، تقدم د. عزيزة البريكان في كتابها «حقوق المرأة: بين الاتجاهات المعاصرة والهدي الإسلامي» مقارنة مفصلة بين الرؤية الإسلامية وبعض الطروحات النسوية الغربية، وتخلص إلى أن الإسلام يوفر إطاراً متوازناً يحفظ كرامة المرأة وحقوقها دون إلغاء الفوارق الفطرية بين الجنسين.
فالإسلام، وفقاً لرؤية البريكان، يقر بالمساواة في القيمة الإنسانية والكرامة، مع الاعتراف بالتكامل بين الجنسين في الأدوار والمسؤوليات.
وفي موسوعته «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، يوضح د. عبدالحليم أبو شقة أن الإسلام منح المرأة حق التعليم والعمل وحق اختيار الزوج والمشاركة في الحياة السياسية، ومع ذلك لا يمكن إنكار وجود تفسيرات واجتهادات فقهية مختلفة قد تتباين في موقفها من حقوق المرأة.
فبعض الطروحات الإسلامية المتشددة كانت سبباً في انتشار النسوية المتطرفة، على نحو ما ذكرته د. آمنة نصير في كتابها «قضايا المرأة بين الموروث والوافد»، الذي قدمت فيه تحليلاً نقدياً للممارسات الثقافية التي ألصقت بالإسلام وأدت إلى تهميش دور المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية.
وتدعو آمنة نصير إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بعيداً عن التفسيرات الذكورية التقليدية، مؤكدة أن الإسلام الصحيح يحمل في طياته مقومات تحرير المرأة وتمكينها.
وإزاء ذلك، ظهر في السنوات الماضية تيار يتبنى انتقادات للتفسيرات الإسلامية السائدة بشأن النساء، ويسعى إلى «إعادة تفسير النصوص الدينية بما يتماشى مع روح العصر وحقوق المرأة»، وهو التيار الذي اصطلح على تسميته بـ«النسوية الإسلامية».
وتؤكد الباحثة أميمة أبو بكر في كتابها «المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين» أن النسوية والإلحاد ليسا وجهين لعملة واحدة، وأشارت إلى وجود تيارات نسوية متدينة، بما في ذلك النسوية الإسلامية، التي تسعى لتحقيق العدالة للمرأة من داخل الإطار الديني، وترى هذه التيارات أن الدين، إذا فُهم بشكل صحيح، يمكن أن يكون مصدراً للتحرر وليس للقمع.
لكن هل يمكن للنسوية أن تكون إسلامية حقاً؟ إن طرح هذا السؤال يكاد يكون مشابهاً للتساؤل بشأن ما إذا كانت الرأسمالية يمكن جعلها شيوعية من عدمه!
يقدم أستاذ مقارنة المعتقدات الأديان د. سامي عامري نقدًا لهذا الطرح في كتابه «النسوية الإسلامية: بين الانسلاخ والتلفيق»، حيث يرى أن هذا التيار يمثل انحرافًا عن مبادئ الإسلام الأصيلة ويعبر عن انحياز جندري ويستخدم الإسلام كعنوان للتسويق فقط.
ويصف عامري تيار النسوية الإسلامية بأنه أحد إفرازات أزمة اختطاف الإسلام من مدارس أجنبية مناوئة لقطعياته.
وأرى أن ما ذهب إليه د. عامري هو الصواب، مع التأكيد على أن العلاقة بين النسوية والإلحاد ليست علاقة حتمية أو ضرورية، فالمطالبة بحقوق المرأة وتحقيق العدالة بين الجنسين لا تتعارض بالضرورة مع الإيمان الديني.
غير أن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تقديم هذا النموذج الإسلامي بصورة معاصرة تتجاوز الممارسات الخاطئة والتفسيرات المتشددة التي ألصقت بالدين، وهنا يأتي دور المفكرين والباحثين المسلمين في إعادة قراءة التراث الإسلامي وتقديم رؤية متوازنة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
إن قضايا المرأة وحقوقها تظل من أهم القضايا المعاصرة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، والمقاربة الإسلامية، بما تحمله من قيم العدل والكرامة الإنسانية، يمكن أن تقدم إسهاماً مهماً في هذا المجال، بعيداً عن الاستقطاب الأيديولوجي بين التيارات النسوية المتطرفة والتفسيرات الدينية المتشددة، فالهدف النهائي ينبغي أن يكون تحقيق مجتمع عادل يحترم كرامة جميع أفراده، رجالاً ونساءً، في ظل قيم الإسلام العظيم.