يقول الإمام محمد عبده في معرض حديثه عن «دار العلوم»: إن باحثًا مدققًا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية، وأين تحيا؛ لوجدها تموت في كل مكان، ووجدها تحيا في هذا المكان.
كان علي مبارك باشا (1823 – 1893م) ينثر بذور النهضة العلمية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متوافقًا مع إرادة سياسية خديوية مواتية، ومن ذلك أن اقترح افتتاح قاعة ملحقة بدار الكتب المصرية الوليدة لتكون ملتقى مفتوحًا للون جديد من مناهج التعليم؛ يجمع بين العلوم الدينية التقليدية، والعلوم المدنية التطبيقية؛ من طب وفلك وهندسة وغيرها، وقد تم له ذلك في مايو 1871م، وسمَّى هذا المدرج بـ«دار العلوم»، وأبيح للناس كافة على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم حضور دروسه التي يقوم بإلقائها نخبة من كبار العلماء على رأسهم علي مبارك باشا.
وقد رأى د. أحمد عزت عبدالكريم أن ذلك كان ابتكارًا غير معهود لفكرة الجامعة الشعبية، بينما رأى د. حامد طاهر أنه كان اقتباسًا من فكرة فرنسية الأصل لملتقى علمي أُلحِق بالمكتبة الوطنية في باريس، وتطور فيما بعد ليصبح «الكوليج دي فرانس»، كما سيطور مدرج دار العلوم ليصبح إحدى أعرق كليات الجامعات العربية والإسلامية.
وفي عام 1304 هـ/ 1887م أصدر مجلس النظار قانونًا يحدد العلوم التي تدرس بدار العلوم، وهي: جملة من فروع اللغة العربية والإسلامية، مع جملة من العلوم التجريبية، وبعض اللغات، وبمرور الزمن كانت تلك العلوم تتغير، فينضاف علم أو يحذف آخر، وفي عام 1945م أصبحت كلية جامعية ضمن جامعة «فؤاد الأول» (القاهرة فيما بعد).
وفي كل ذلك، ظلت فلسفة إنشاء دار العلوم قائمة، كما عبر عنها د. مصطفى عبدالرازق: وهي الجمعُ بين ما في الطُّرق الأزهريَّة القديمة من دقَّة البحث وتقوية الملكات العلميَّة، وما في المدارس الحديثة من تنوُّع المعلومات، ومُراعاة الانتِفاع بها في الحياة، صحيح أن مناهج التعليم في الكلية تخلت -بعد حين- عن تدريس العلوم الطبيعية، لكنها ازدادت رسوخًا في تخصص اللغة العربية والدراسات الإسلامية، ليكون التخصص الدقيق في مراحل الدراسات العليا؛ الماجستير والدكتوراة، وجذبت بسمعتها الداوية وفود الدارسين من العرب والمسلمين على تباين أوطانهم، حتى بلغت في مطلع تسعينيات القرن الماضي نحو 10% من طلابها.
الدور اللغوي لدار العلوم
آمنت دار العلوم بدورها الرسالي الذي اضطلعت به، فكانت أحد المعابر الحضارية الواصلة بين الثقافة العربية الرصينة والثقافات الغربية، ومنذ بدايتها جلس بين طلابها بعض المستشرقين، منهم إدوارد براون (1929 – 1862م) الأستاذ بجامعة كمبردج، وكارلو نلينو (1938 – 1872م) المستشرق الإيطالي، بينما انتصب عدد من أبناء دار العلوم للتدريس في جامعات الغرب، مثل حسن توفيق العدل (تخرَّج في دار العلوم عام 1887م) الذي درس اللغة العربيَّة بالمدرسة الشرقيَّة ببرلين.
وكان أبناؤها حاضرين في مؤتمرات الاستشراق لتتلاقح أفكار العالمين العربي والأوروبي، فحضر إبراهيم مصطفى مؤتمر التربية في باريس عام 1889م، وشارك آخرون في عديد من مؤتمرات الاستشراق في روما عام 1899م، وفي ستوكهولم والنرويج عام 1889م، وفي مؤتمر اللغات الشرقية بلندن عام 1891م، ومؤتمر المستشرقين في أثينا عام 1911م، ومؤتمر الأديان في باريس عام 1939م وغيرها.
وترجم عدد من أبناء دار العلوم عددًا وفيرًا من كتابات الغربيين إلى العربية، برز من بينهم رجال، مثل: أحمد نجيب، وعبدالله أبو السعود، وعلي الجارم، وعبدالحميد العبادي، وحسن توفيق العدل، وأحمد ضيف.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، نشطت حركة الابتعاث إلى الغرب، وانفسحت أمام أبناء الدار السبل لترجمة أعمال كبرى في الآداب والتاريخ والفكر والفلسفة، من لغات شتى، وبرز مترجمون آخرون، منهم: محمود قاسم، وعبدالصبور شاهين، وحسن الشافعي، وسعد مصلوح.. وغيرهم.
اجتهد أبناء الدار في تيسير النحو العربي أمام طلابه؛ مع تعميق النظر إليه، فكتب إبراهيم مصطفى «إحياء النحو»، وعباس حسن «النحو الوافي»، وعبدالعليم إبراهيم «النحو الوظيفي»، ومحمد عيد «النحو المصفى»، وعنوا بتوسيع الإدراك اللغوي، والانفتاح أمام مدارسه الجديدة في الغرب، فكتب إبراهيم أنيس «الأصوات اللغوية»، و«من أسرار اللغة»، وكتب تمام حسان «مناهج البحث في اللغة»، وكتب عبدالصبور شاهين «القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث»، و«العربية لغة العلوم والتقنية»، وسعد مصلوح «دراسات نقدية في اللسانيات المعاصرة».
وارتاد آخرون الطريق في التعريف بالنظريات الحديثة في الأدب والنقد، فكتب محمد غنيمي هلال «النقد الأدبي الحديث»، و«الأدب المقارن»، وعبدالحكيم حسان «النظرية الرومانتيكية في الشعر»، ومحمود الربيعي «في نقد الشعر».
وقدمت دار العلوم أعلامًا في تحقيق التراث، قدموا للمكتبة العربية عددًا وفيرًا من أمهات الكتب، منهم عبدالواحد وافي، وعبدالسلام هارون، وإبراهيم الإبياري، ومحمد سعيد العريان، ومحمود الطناحي، وعبدالفتاح الحلو.. وغيرهم.
وكم من شاعر من أبناء الدار ذاع صيته، وعلا نجمه، منهم: علي الجارم، ومحمد عبدالمطلب، ومحمود غنيم، والعوضي الوكيل، وعلي الجندي، وهاشم الرفاعي، ومحمد الفيتوري، وفاروق شوشة، وفي مجال الرواية والقصَّة القصيرة نجد محمد عبدالحليم عبدالله، وأبو المعاطي أبو النجا، ومحمود عوض عبدالعال.. وغيرهم.
ولأبناء الدار دورهم في المجامع اللغوية العربية، فقد ترأس مجمع اللغة العربية بالقاهرة اثنان من أكابرهم: د. إبراهيم مدكور (خريج دار العلوم عام 1927م) خلفًا لطه حسين عام 1974م، حتى توفي عام 1995م، وترأس د. كمال بشر المجمع مؤقتًا، حتى انتخب د. حسن الشافعي رئيساً له عام 2012م، فضلاً عمن ضمهم هذا المجمع من أبناء دار العلوم الذين ضربوا بسهم وافر في وضع المعاجم، وتطوير أساليب العربيَّة.
دور دار العلوم القيمي والتربوي
لا شك أن استعراض الجهود العلمية السابقة -وهي قليل من كثير- يؤكد بروز قيمة العلم وتجلياتها؛ في طلبه وأدائه، وتشقيق مسائله، وتطوير أدواته، وتوسيع مجالاته، والسعي لمواكبة أحدث مناهجه، وتيسير مشاقّه، وتذليل صعابه، مع ما قد يصحب ذلك من ضيق الباع، وما يستلزمه من وفرة إنفاق، وفراغ بال؛ مما يدركه من طلب العلم في بلادنا، وبخاصة أن معظم أبناء الدار كانوا -ولا يزالون- من الطبقة الوسطى في مجتمعهم.
وقد كان لمشايخهم في نفوس طلابهم وعارفيهم هيبة وتجلة، رأيناها في رجال مثل أساتذتنا محمد بلتاجي حسن، وعلي الجندي، وحسن الشافعي، وحدثنا عنها سابقونا عن أمثال الشيخ محمد أبي زهرة، وقد ملأت هيبتهم قلوبنا ونحن طلاب، ولما اقتربنا منهم وزاملناهم تكشفت أمامنا أسرارها من خصال نفسية وروحية؛ مازجتها قدرات عقلية وعلمية متفردة، مع اعتزاز برسالتهم وأدوارهم، لقد كان منهم علماء؛ هم في نظر كثيرين من محبيهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، جهيرين به، وإن أودى بهم ذلك إلى محن حلّت، ثم زالت، وبقيت مآثرها خالدات.
على أن ذلك الإجلال وتلك الهيبة لم يحولا دون خلطة وارفة بطلابهم، وخفض جناح، وكم أهدى أحدهم تلامذته كتبه، أو أباحهم مكتبته، أو أخذ بأيديهم في مدارج العلم، ومزالق الطلب، وقد عايشت بعضهم يسعى لإتمام خطبة أحدهم، أو يشاركه سعادته في حفل عرسه، أو يقدم له العون في مناضلة مصاعب الحياة.