تعالج الهجرة النبوية الشريفة مفهوماً فكرياً وحضارياً تحتاج الأمة الإسلامية إليه في الوقت الحاضر أشد الاحتياج، وهو التكامل بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله تعالى، حيث إن بعض الناس يظن أنهما لا يلتقيان؛ إذا توكل المسلم على الله فإنه لا يأخذ بالأسباب، وإذا أخذ بالأسباب فإنه لا يتوكل على الله.
والحقيقة أنهما لا يتناقضان، بل يتكاملان، ووجود أحدهما لا ينفي الآخر، بل إن الواجب على كل مسلم أن يجمع بينهما في حياته، فيحرص على الأخذ بكل الأسباب المتاحة ويحسن الاستفادة منها جميعاً، مع يقينه أن الله تعالى قادر على كل شيء فيتوكل عليه لا على الأسباب، وهذا هو المعنى الصحيح للتوكل على الله، وهو قطع النظر في الأسباب بعد تهيئتها.
دعوة القرآن الكريم إلى التكامل
أكد القرآن الكريم والسُّنة النبوية ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، حيث قال تعالى آمراً بالأخذ بالأسباب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) (النساء: 71)، وقال سبحانه: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وقال عز وجل: (فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10).
وفي جانب التوكل على الله، قال عز وجل: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 122)، وقال سبحانه: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة: 23)، وقال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) (آل عمران: 159).
وقد حكى القرآن الكريم نماذج عظيمة في الأمر باتخاذ الأسباب، وأنه لا ينافي التوكل على الله، فهذا نبي الله نوح عليه السلام يأمره ربه بصنع السفينة لتكون أداة النجاة مع أن الله قادر على نصرته بدونها، قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) (هود: 37)، وهذه السيدة مريم بعد ولادتها يأمرها قائلاً: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (مريم: 25).
دعوة السُّنة النبوية إلى التكامل
لقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه صلى الله عليه وسلم إلى عدم تعارضهما، حيث روى الترمذي، وابن ماجه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّكم كنتُم توَكلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكلِه لرزقتُم كما يرزقُ الطَّيرُ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا»، وفي صحيح بن حبان عن عمرو بن أمية قال: جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: يا رسول الله، أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: «اعقِلْها وتوكَّلْ»؛ والمعنى: اربطها حتى لا تذهب وتضل ثم توكل على الله.
ومن ذلك أيضاً ما ورد في جامع العلوم والحكم عن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قال: لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَوَاكِلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
التطبيق العملي
كشف حادث الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة صورة التكامل الواضح بين الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز وجل، فقد استوفى الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الأسباب المتاحة، لم يُغفلا واحداً منها.
إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدّماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأن التخطيط جزء من السُّنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السُّنة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.
فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، شرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ، نلاحظ وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعاب، وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً:
1- جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدة الحرّ، الوقت الذي لا يخرج فيه أحد، بل من عادته لم يكن يأتي إليه في ذلك الوقت، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
2- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصّدّيق وجاء إلى بيت الصّدّيق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.
3- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرج من عنده، ولما تكلّم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
4- كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفيّ في بيت أبي بكر.
5- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، ما دام على خُلُق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.
6- انتقاء شخصيات لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
7- وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
8- فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضلّلت القوم، وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله، وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة، بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يشكّون في أنه ما يزال نائماً مُسجّى في بردته، في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف، لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة، أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله تحيط به.
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهو في هذه الحالة لا يعتمد على الأسباب التي اتخذها، بل يتعلق بربه سبحانه.
ويتجلى ذلك في موقفه صلى الله عليه وسلم حين وقف المشركون على باب الغار، وقال أبو بكر رضي الله عنه: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!» (متفق عليه)، وقد أشارَ القُرآنُ إلى ذلك في قولِه تعالَى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40).
إن الله تعالى كان قادراً أن ينجي رسوله وينصره بقوله كن فيكون، لكنه يدعونا إلى الأخذ بالأسباب، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته عموماً وفي الهجرة خصوصاً، وذلك حتى يتعود المسلم أن يبذل جهده مادياً ومعنوياً، أما الجهد المادي فيظهر في بذل طاقته وقوته في اتخاذ الأسباب اللازمة لتحقيق هدفه وبلوغ غايته، وأما الجهد المعنوي فيظهر في التعلق الكامل بالله تعالى وحسن الصلة به فهو الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.